أين نحن من مفهوم التنوير؟

د. عامر ملوكا

 لازالت مجتمعاتنا تتحسس، لابل تخاف من مصطلحات وأفكار وآراء ومدارس كانت لأوربا السبق  في تطبيقها والسير على مبادئها، ولكنها لليوم لازالت هذه التجارب أو الثورات الناجحة والتي نقلت المجتمعات والانسان من حال إلى حال، ومن عصر الظلمات والتخلف والجهل إلى عصر الأنوار، ولكونها ثورات غيّرت وجه العالم ، أطلقت عليها الكثير من التسميات ومنها عصر النهضة أو النهضة الإنسانية أو عصر التنوير أو الثورة الصناعية أو عصر المنطق،  وأُسميّ هذا العصر أيضاً بعصر الأنوار إشارة إلى ما يرمز إلى  ما هو مخالف إلى عصر الظلمات في القرون الوسطى والذي كان للكنيسة ورجالاتها وبإسم الدين الدور الكبير في السيطرة و التحكم بالإنسان ومصيره.

نستطيع أن نحدد بدايات عصر النهضة مع نهايات القرون الوسطى المظلمة، وقد عُرف في فرنسا على أنه عصر الايضاح وفي المانيا عرف بعصر التنوير، ويمكننا ربط مصطلح التنوير بكل الأمور العقلانية التي تنطلق من العقل السليم والمستندة على الحقائق الملموسة البعيدة عن المسلمات والغيبيات، والتي تسهم وتساعد في تأسيس النُظم الشرعية للمعارف والعلوم والقواعد الأخلاقية. وتهدف للوصول بالعالم إلى الرقي والتطور ومن خلال ترك التقاليد والقيم الموروثة والتي لا تستند إلى الإثباتات والحقائق العلمية بالاعتماد على مبدأ التجربة العلمية والنتائج والاثباتات الحقيقية وليس على الغيبيات والأساطير.

  وأصبح العقل البشري هو المتسيّد وراح يدرس كل المعتقدات والمسلمات ويغربلها بالمنطق الصحيح ومن خلال هذه الدراسة تم الإبقاء على الأشياء المنطقية والتي يمكن للعقل أن يتقبلّها والتي تصب في مصلحة الانسان ومستقبله والعكس صحيح . ومن أجمل من كتب عن التنوير ايمانويل كانط ويعود تاريخ هذه المقالة لأواخر القرن الثامن عشر، حيث كتبها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط رداً على القسيس جوهان فريدريك زولنر الذي كتب مقالة بنفس المجلة عن وقوفه بجانب الزواج الكنسي ضد الزواج المدني وأيضاً طرحه لسؤال عن ما هو التنوير حيث قال أنه لم يجد له تعريفاً، وجاء الرد من كانط وفي نفس المجلة (برلي) الشهرية أن التنوير يعني خروج الإنسان من حالة القصور العقلي التي يجد نفسه فيها والتي هو وحده مسؤول عنها، فأن تكون قاصراً عقلياً يعني أن تكون غير قادر على استخدام عقلك بدون وصاية شخص آخر وتوجيهه،  فالإنسان مسؤول عن هذه الحالة إذا لم يكن سببها نقص في عقله بل نقص في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده، وبالتالي: فلتتجرأ أيها الإنسان على المعرفة، لتكن لك الشجاعة على استخدام عقلك.

ولابد للعقل العربي أن يتحرر من المسلمات والأيدولوجيات المتناقلة عبر القرون، وأن الشعوب الأوربية لم تدخل عصر النهضة إلاّ بعد أن تحررت من الأصولية المسيحية وسطوة رجال الدين وذلك كله بفضل التنوير ومفكريه الذين استطاعوا من أن يقنعوا الغالبية العظمى من شعوبهم بأفكارهم مما سهل عليهم دخول عصر النهضة والتطور، ولكن في مجتمعاتنا العربية لازالت الحركات الأصولية تتمتع بقدر من الشعبية وقابليتها على التأثير، وظل دعاة التنوير والنهضة فئة نخبوية تقتصر على المثقفين فقط.

ولابد للمجتمعات العربية التفكير في كيفية الخروج من عصر تمجيد الطاعة أي تمجيد الطاعة العمياء لكل الموروثات والحنين للماضي وان كل ما يحمله الماضي هو الصحيح ولن يتكرر ولابد لنا منح حق الاختلاف وأن نكون منحازين للعقلانية وبالضد من الجمود الفكري وثقافة النص الجامد، ويعتقد الكثير من العرب والمسلمين بأن التنوير ولأنه قادم من الغرب فهو يهدف إلى اقصاء الدين والشرع وعند البعض القليل الاخر التنوير هو ظاهرة إصلاحية تجديدية في الثقافة والفكر والمفهوم الديني.

واذا حسبنا الفارق التاريخي بين ظهور المسيحية وظهور الإسلام تقريبا 600 سنة فاذا كانت النهضة قد بدأت تقريبا قبل 600 سنة في أوربا المسيحية فكان يفترض أن نكون مهيئين وجاهزين لهذا التغيير في المئة سنة الأخيرة، ولكن كل المؤشرات تشير إلى أننا بعيدون كثيراً عن مثل هذا التغيير . وقد ظهرت في منتصف القرن العشرين ولغاية الثمانينات بعض الإشارات على قابلية المجتمعات العربية للتغيير وقبول الأفكار والآراء التي تتماشى مع التطور والعصر الحديث إلى أن جاءت الثورة الإيرانية لتدخل المنطقة في صراعات طائفية ولينتج عنها الإرهاب والأفكار الاقصائية ولتشهد منطقتنا العربية تراجعاً خطيراً بدل البناء على ما هو موجود ولازال هذا الصراع قائم ولا نعلم نهايته. وسوف نشهد تقدم جميع الأمم وعلى كافة المستويات، وسوف نبقى خارج التاريخ إذا لم نتكاتف مع حملة الأفكار النيرة وقادة الإصلاح، ولكن لغاية اليوم نشهد التكفير والاضطهاد والازدراء والتهديد والنفي والكثير من المعوقات التي تجعل هؤلاء المفكرين وقادة الإصلاح منبوذين ومطاردين.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here