الصمت

الصمت

فرات المحسن

كنت في الرابعة والعشرين من عمري حين أدخلتني الحرب موقدها . حينها لم أعد أمتلك رغبة لمراجعة دفاتري أو إعادة قراءة ما دونته من قصائد خلال فترة الدراسة، ولا حتى في زمن البطالة التي نخرت روحي. ومثلما خسرت كل ذلك، تركت ورائي أحلامًا كثيرةً وضجة حياة ببريقها الخلاب وكبواتها الموجعات.

الراتب الأول لجندي كان يعني ليَّ الكثير. في جميع الاحتمالات، ومهما قادني تفكيري نحو أشياء رغبت في طفولتي الاستحواذ عليها، أو تولدت عندي فكرة لمقتها، فذلك الذي أمسكته يدي اليوم، كان راتبا استلمته كأجر عن مهنة حكومية، وظيفة حكومية، يا لها من أصفاد ثقيلة، ومبعث لمزاج عكر.الوظيفة دائما ما عافتها روحي وكرهت ممارستها، وافزع حين ينبهني أحد عليها، فأنا أكره القيود، ولا أود أن يكون هناك مكان تافه يضمني برتابته، لأصبح مثل مناضد تثار خلفها الثرثرة.

ادخرت الراتب لأسلمه لأمي في اليوم الأول من إجازتي. شع من عينيها بريق فرح، وحبست أنفاسها وهي تدس الأوراق الملونة تحت شيلتها الكالحة، دون أن تعدها، فقد أكتفت بسماع الرقم حين خرج من فمي. لم يسبق لشيلتها أن أخفت مثل هذه الأوراق المبهرة، ولا حاجة لها للتفكير بما يعنيه ذلك المبلغ، مثلما كان يعني لي كأجر مدفوع عن منح جسدي كاملا لمحرقة لم أجد مبررًا لها في ذهني. ولكني دون تفكير طويل أو نقاش قبلت تلك المهنة ، كونها المنفذ الوحيد المتبقي أمامي ، ومعها اخترت الصمت.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here