أين المسؤولية الأخلاقية في تجنيد الأجانب؟

حميد الكفائ
كاتب وأكاديمي عراقي

مقال رأي

لجأت دول كثيرة في العصور السالفة إلى تجنيد مقاتلين أجانب في حروبها الوطنية، على الرغم من أن هذا الأمر يتعارض مع مبدأ “عدالة الحرب”، باعتبار أنها شنت لأسباب وطنية وليست عدوانية أو توسعية.

ومازالت هذه العملية مستمرة في هذا العصر، إذ تلجأ بعض الدول إلى تعزيز قواتها بمقاتلين أجانب، وحتى مرتزقة، تستقدمهم لهذا الغرض مقابل أجر، بينما تلجأ دول أخرى إلى تحفيز اللاجئين الأجانب إليها من الدول الأخرى بمنحهم جنسيتها إن هم انخرطوا في جيوشها. والجنسية تمنح لهم بعد انخراطهم في الجيش بسنوات، أي أنهم يحاربون كأجانب.

هناك تمييز قانوني واصطلاحي بين المنخرطين الأجانب في حروب خارج بلدانهم، فهناك المرتزقة وهم الذين يحاربون من أجل المال ولا تهمهم القضية، وهناك المقاتلون الأجانب، الذين يحاربون من أجل الأيديولوجية، وهم في العادة ينخرطون في تنظيمات مسلحة، وهناك المجندون الذين ينضمون إلى الجيوش الرسمية للدول الأخرى لأسباب شخصية مختلفة.

يبرر المنخرطون في الحروب التي لا تمت لأوطانهم بصلة، عملهم هذا بتقديم مبررات أيديولوجية أو دينية أو أخلاقية أو قومية، وقد يؤمن بعض هؤلاء فعلا بهذه المبررات، ويعتبرون انخراطهم في الحرب مشروعا، من الناحية الدينية أو الأخلاقية أو الأيديولوجية، كما حصل في انخراط البعض في الحرب في أفغانستان لمناهضة الاحتلال الروسي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أو انخراط البعض الآخر في نصرة المقاتلين الشيشان في روسيا، أو المسلمين البوسنيين ضد البوسنيين الصرب الذين تدعمهم صربيا في تسعينيات القرن الماضي.

في الحرب العراقية الإيرانية، حارب عدد من العراقيين في ثمانينيات القرن الماضي في صفوف القوات الإيرانية ضد بلدهم، العراق، الذي سماه أحدهم بـ(العدو) في مقابلة تلفزيونية متوفرة على يوتيوب، وبرروا ذلك بمبررات دينية وطائفية، وقد اتضح لاحقا أن هؤلاء لا يقيمون وزنا لأي اعتبار ديني أو وطني أو أخلاقي، وأن انخراطهم في تلك الحرب كان لأسباب شخصية أولها الارتزاق.

وإن أمكن “تفهم” قيام الدول الإمبراطورية الاستعمارية باستخدام مواطني الدول المستعمرة في حروبها التوسعية، كما فعلت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى عند استخدامها مواطني الهند، وفرنسا عند استخدامها مواطني مستعمراتها الإفريقية في حروب خارج بلدانهم، فكيف يمكن تبرير استخدام مُدانين قضائيا هاربين من العدالة في بلدانهم في حروب أخرى يراد تبريرها على أنها حروب عادلة وتهدف إلى “إحقاق الحق” أو “استعادة الحقوق الوطنية المغتصبة”؟

كانت فرنسا أول من أنشأ قوة عسكرية تقبل في صفوفها محاربين أجانب عام 1831، أطلقت عليها تسمية “الفيلق الخارجي” أو (Légion étrangère)، وقد استعانت بها للقيام بمهام عسكرية محددة في الحروب الخارجية، إذ استُخدِم هذا الفيلق في حرب الجزائر وفي لبنان وفي العديد من الدول الإفريقية التي حكمتها فرنسا، بل استُخدِم هذا الفيلق حتى في حرب الخليج عام 1991، وكذلك في أفغانستان في الفترة (2001-2014).

في الحرب الجارية حاليا بين روسيا وأوكرانيا، لجأ الطرفان أيضا إلى استقدام محاربين أجانب، وحتى مرتزقة، لخوض الحرب في صفوف مقاتلي البلدين. فقد أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في السابع والعشرين من فبراير الماضي عن تشكيل “الفيلق الدولي” للدفاع عن وحدة أراضي أوكرانيا.

وبعد عشرة أيام من الإعلان سجل 20 ألف متطوع من 52 دولة أسماءهم في هذا الفيلق، كان في مقدمتهم مواطنون أميركيون.

وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، أعلنت عند بداية التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا، بأن بريطانيا لا تعارض قيام متطوعين بمساعدة أوكرانيا في الحرب ضد روسيا، بل قالت إن بلدها يشجع هؤلاء ومستعد لتسهيل مهمتهم!

بينما أعلنت روسيا أنها ستعتبر المقاتلين الأجانب في أوكرانيا مرتزقة لا يستحقون الحماية التي يوفرها القانون الدولي للأسرى، وسوف تتعامل معهم بشدة.

وبالفعل، فقد قامت الطائرات الروسية في 13 مارس الجاري بقصف هدف على الحدود البولندية الأوكرانية ادعت بأنه مركز لتدريب “المرتزقة الغربيين”!

غير أن روسيا هي الأخرى وضعت إعلانات عبر منصة التواصل الاجتماعي الروسية (VK)، عن حاجتها لـ(حراس شخصيين) من دول الاتحاد السوفيتي السابق، ويعتقد بأن هؤلاء مقاتلون مأجورون، يراد استخدامهم في الحرب على أوكرانيا.

وتشير الإعلانات إلى أن الشروط السابقة للتجنيد في روسيا قد أزيلت، ومنها أن يكون المجندون مواطنين، إذ سُمح لمواطني الدول الأخرى (باستثناء جورجيا) بالانخراط في هذا العمل. كما أسقطت شروط أخرى كانت مهمة سابقا، كأن يكون المتقدمون غير مُدانين أو مَدينين أو محظورين من السفر! والواضح أن وجهة العمل لهؤلاء (الحراس) هي أوكرانيا!

وقد نشرت هيئة بي بي سي في موقعها مقابلة مع أحد هؤلاء المجندين في أوكرانيا، الذي ينتمي إلى منظمة (Wagner) السرية الروسية، المتهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا وليبيا، كما أشارت إلى ذلك وثائق عُثر عليها مخزونة في كمبيوتر مهجور في ليبيا عام 2021. وتشير تلك الوثائق إلى أن الحكومة الروسية تقدم دعما لهذا المنظمة التي عملت في العديد من مناطق العالم الساخنة، مثل سوريا وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، لكنها تنفي رسميا تقديمها أي دعم لها.

وقال المجند لبي بي سي إن العديد من أعضاء هذه المنظمة قد تلقوا اتصالا للانخراط في “نزهة” في أوكرانيا، وأن 400 منهم قد لبوا النداء، وإن السلطات الروسية تدفع لكل مقاتل 2100 دولار شهريا. ولكن، بسبب السمعة السيئة لمنظمة “فاغنر”، أصبح يشار إلى هؤلاء المقاتلين في روسيا بـ”الصقور”.

كما أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، الأسبوع الماضي أن 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط انضموا إلى الجيش الروسي لخوض الحرب في أوكرانيا، بعد أن أعلن الرئيس فلاديمير بوتن موافقته على السماح للمقاتلين من الشرق الأوسط بالالتحاق بالجيش الروسي!! وليس معروفا سبب انضمام هؤلاء المقاتلين إلى الجيش الروسي لمقاتلة الأوكرانيين، فلا يوجد دافع ديني، مثلا، كما كان في أفغانستان إبان الاحتلال الروسي لها، فالحرب الحالية هي بين دولتين لا يدين معظم مواطنيهما بالإسلام. كما لا يوجد مبرر أخلاقي أو أيديولوجي واضح يعتنقه الروس ويشاركهم فيه هؤلاء المقاتلون، كما حصل في عهد الاتحاد السوفياتي السابق مثلا، الذي كان يعتنق الأيديولوجية الشيوعية.

ويستغرب محللون لجوء روسيا إلى استقدام مقاتلين أجانب، أو مرتزقة، فعديد الجيش الروسي الفعلي يقارب المليون منتسب، وإذا ما أضيف إليه الجنود والضباط الاحتياط، فإن العدد يقترب من ثلاثة ملايين. فلماذا يا ترى تسمح روسيا لـ”متطوعين” أجانب للانخراط في حربها مع أوكرانيا علما أنها تبررها على أنها لرفع “الاضطهاد” الذي يعانيه مواطنون روس في أوكرانيا، ولمحاربة “النازية” الأوكرانية الجديدة!

ويؤكد محللون استراتيجيون، بينهم جيسون بلازاكيس، الباحث في مركز سوفان للأبحاث الأمنية في أميركا، في مقابلة مع بي بي سي، أن لجوء روسيا إلى تجنيد المقاتلين الأجانب، هو دليل على اليأس من تحقيق النصر السريع الذي كانت تتوقعه قبل بدء الحرب، ولذلك بدأت القيادة الروسية تقلق من احتمال أن يتكبد الجيش الروسي المزيد من الخسائر في الأرواح، الأمر الذي يقلص من التأييد الشعبي للحرب، ويتسبب في إثارة الاستياء منها، خصوصا وأن كثيرين يرون أنها غير مبررة، وأنها أدخلت روسيا والعالم في أزمة خطيرة لا يبدو أن هناك أملا بنهاية قريبة لها. كما أن العديد من الناشطين الروس بدأوا يعارضون هذه الحرب، وأشارت تقارير إخبارية الى أن السلطات الروسية اعتقلت عددا منهم أثناء الاحتجاجات.

ولا تعتبِر الدول التي تسمح بتجنيد مقاتلين أجانب في صفوف قواتها، المقاتلين جزءا من عديد قواتها، لذلك لا تسجل الخسائر في صفوف هؤلاء على أنها خسائر تتكبدها قواتها الرسمية، بل لا تعلن عنها أصلا، إضافة إلى أن أي خسائر في صفوف المجندين الأجانب لا يتحسسها شعب تلك الدولة. وبناء على ذلك، لا تعتبر السلطات الروسية المحاربين الأجانب جزءا من قواتها، وأي خسائر يتكبدونها لا تُسجَّل على أنها خسائر في صفوف الجيش الروسي.

وإذا ما أجرينا مقارنة بين الفيلق الخارجي الفرنسي وبين منظمة (فاغنر) الروسية، فإن الفيلق الفرنسي هو جزء من الجيش، على الرغم من أنه يقبل في صفوفه مقاتلين أجانب، بينما تنفي الحكومة الروسية أي صلة لها بالمنظمة، لكنها تستعين بها في حروبها الخارجية.

القانون الدولي لا يقدم حماية للمرتزقة الذين انضموا للحرب من أجل المال، لكنه لا يعتبِر المتطوعين أو المقاتلين الايديولوجيين مرتزقة باعتبار أنهم لا يعملون لدى الدول، بل تطوعوا من أجل قضية يؤمنون بها وأن دوافعهم ليست مادية. غير أن من الصعب البرهنة على هذه الأمور بدقة، فحتى المرتزقة يمكنهم أن يدعوا بأنهم متعاطفون مع القضية التي اندلعت الحرب بسببها، بينما يتقاضى المتطوعون الأجانب في صفوف الجيوش الأخرى رواتب.

المشكلة التي يمكن أن تنشأ بسبب وجود مجندين أجانب، أو مرتزقة، يقاتلون في صفوف جيش دولة أخرى، هي عندما يقع هؤلاء في الأسر، وكيف يمكن أن تتعامل معهم الدولة الآسرة لهم وكيف ستكون ردة فعل الدول التي ينتمون إليها عند إساءة معاملة مواطنيها أو إعدامهم كما يحصل في العديد من الدول.

ففي حرب الشيشان، أعلنت روسيا أنها سوف تتعامل مع المقاتلين الأجانب في صفوف المتمردين على أنهم مرتزقة وسوف يعدمون حال القبض عليهم. وفي الاتحاد السوفياتي السابق، كانت تُشكل “محاكم شعبية” للمقاتلين الأجانب الذين اعتبرتهم السلطات الرسمية “عصابات”، وكانوا يحاكمون ويعدمون في الميدان، بينما لجأت دول أخرى إلى تعذيب الأسرى الأجانب أو إساءة معاملتهم، خصوصا مع عدم تدخل الدول التي ينتمون إليها.

من الواضح أن بعض الدول تستغل ظروف بعض الأشخاص الشخصية، خصوصا مرتكبي الجرائم والمطلوبين في دولهم، من أجل تجنيدهم لخوض حروب غير عادلة، أو على الأقل هم غير معنيين بها أو مؤمنين بعدالتها أو ضرورتها. لا شك بأن مثل هذا الاستغلال مرفوض أخلاقيا، بالإضافة إلى أنه يتغاضى عن دوافع هؤلاء المقاتلين للانخراط في صفوف جيوش دول أخرى، وخوض معارك لا تعنيهم، لكنها تشكل مدخلا لهم للخلاص من العقوبة والملاحقة القضائية، فيصبحون بذلك أشخاصا عاديين من جديد، في تجاهل تام عن سجلهم السابق.

يبدو أن كثيرا من الدول لم تعد تعتمد على النوازع الوطنية لمواطنيها في خوض غمار الحروب التي تشنها على الدول الأخرى، خصوصا مع ميل الإنسان العصري إلى السلم والرفاهية. لكن هناك مسؤولية أخلاقية، خصوصا بين الدول التي تدعي الالتزام بمواثيق حقوق الإنسان، وهذه المسؤولية تستدعي عدم استغلال مواطني الدول الأخرى في حروب غير متعلقة بقضايا بلدانهم. فإن كان الموقف القانوني ملتبسا، أو غير واضح، خصوصا مع غياب القسر، باعتبار أن هؤلاء المقاتلين قد اختاروا الانخراط في الحرب بإرادتهم، فإن هناك جانبا إنسانيا وأخلاقيا غائبا في تجنيد الأجانب، خصوصا المدانين منهم والهاربين من دول أخرى والممنوعين من السفر لأسباب قضائية. يبدو أن القانون الدولي الحالي قاصر في هذه المسألة، وقد آن الأوان أن يُسن قانون يدين تجنيد الأجانب في حروب الدول الأخرى، وتقديم الإغراءات المادية أو المعنوية لهم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here