*نبذة من تاريخ الفكر غير العقلاني الذي جلب الكوارث للإنسانية* نيتشه كان المفضل لدى زعيم الرايخ النازي ادولف هتلر.. الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة إنسانية رهيبة* النيتشية هي مسار لمن يفتقد القدرة على التفكير ويدور في حلقة مفرغة من السياسات والمواقف والثقافة غير القابلة للنقاش.. والنماذج امامنا كثيرة*
نبيل عودة
عُرف عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة من القرن التاسع عشر (1844 – 1900)، رفضه لثوابت الإيمان المسيحي ولكل الأخلاق السائدة. بالطبع لن أدخل في جوهر الصراع بين نيتشه والكنيسة المسيحية. نيتشه توهّم انه يرى ظاهرة مهمّة وبالغة الخطورة على العقل البشري، تسود بعض الفئات الاجتماعية المتعصّبة لفكرة او لشخص ما يدغدغ ميولهم، وقد أطلق نيتشه على هذه الظاهرة تعبير “أخلاق القطيع”.. لأنها تطرح أطيقا غير طبيعية من وجهة نظره، وذهب نحو إيجاد أطيقا جديدة بعيدة عن الأطيقا الكنسية (الدينية)، سمّاها “الرغبة بالعظمة”. وان الوحيد غير العادي الموجود خارج “أخلاق القطيع” هو النجم الأعلى، اي السوبرمان، اي شخصا (أو مجموعة) مميزا، يظهر كل عدة عقود أو قرن.. وهو شخص (أو حزب أو منظمة أو عصابة مافيا مثلا) يحقّ له حسب عقله، ان يعبّر بحرية عن قوته الطبيعية وتفوّقه على القطيع. بالطبع نيتشه كان أشبه ببطل أفلام الكاوبوي الطليانية (السباغتي) الذي ينتصر بكل الأحوال بقوته الخارقة ولو واجهه جيش من عشرات المسلحين.
فلسفة نيتشة بمفهومها العام هي فلسفة ثورة ضد الضعف و الخضوع، ثورة لخلق الانسان الأرقى (السوبرمان) كي يقود العالم الى الكمال الذي يحلم به البشر، اما الانسان العادي فهو مجرد تابع للقطيع.
لذا ليس بالصدفة ان نيتشه كان المفضل لدى زعيم الرايخ النازي ادولف هتلر، الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة إنسانية رهيبة من أجل إبراز عظمة الفوهرر بكونه السوبرمان لأرقى عنصر إثني ظهر فوق الأرض، وجعل العرق الألماني العرق الأرقى بين البشر، وما زلنا نعاني من هذه البدع بأشكال مختلفة حتى اليوم، حتى من ضحايا السوبرمان النازي!!
قبل استيلاء النازيون على السلطة اعتبر سياسيوهم ومفكروهم بأنهم النموذج الذي طرحه نيتشه في فلسفته لذا هم الورثة لنيتشه ووصفوه “بنذير القومية الاشتراكية” (هذا هو اسم الحزب النازي) وحين استلموا زمام السلطة جعلوا من النيتشويه فلسفة شبه رسمية وقد وضع هتلر مخطوطات نيتشه تحت حمايته ونشر صورا له الى جانب تمثال نيتشه، وهذه رسالة واضحة من هتلر حول تبني النازية لفلسفة نيتشه. اعتبر النازيون نيتشه بأنه الفيلسوف الذي اكمل الرسالة العظمى لتحرير الفكر الألماني من العناصر الأجنبية .
بعد سقوط المانيا النازية، اتُّهم نيتشه بكل شيء سيّئ في ألمانيا الجديدة، من العسكرية المجنونة وحتى الملفوف المكبوس بشكل لا يرضي ذوق الطعام عند الألمان.
بالطبع كلنا نعرف مصير الرايخ وزعيمه ومصير ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية، ومصير شعوب اوروبا وآسيا وشمال افريقيا وانعكاس فكرة السوبرمان على سياسة العالم حتى اليوم بنسختها الأمريكية، التي أبقت قصدا دول الشرق ما دون الرقي ليبقى “السوبرمان الدوري” مسيطرا وعظيما توفر له السياسة الأمريكية الحماية غير المشروطة وتتجاهل حتى توريط الشرق الأوسط بالسباق للسلاح النووي وأسلحة غير تقليدية أخرى لمواجهة السلاح النووي وقت الضرورة… ولم يعد سرا ان هذا السوبرمان الشرق أوسطي هو الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط. ودوره الهام هو ضمان بقاء العرب في إطار القطيع..!!
المستهجن ان بعضنا مازال يؤمن بالنيتشيه ويتصرّف حسب مفاهيمها، دون ان يفهمها ودون أن يعرفها ودون ان يفهم ان فكر الوهم الاستعلائي قاد شعوبا عديدة الى الانحطاط، ويبقي شعوبا في قاع الرقي بأوهامها القاتلة انها تملك أرقى حضارة… وأن النيتشيين الجدد يحركهم ظنُّهم انهم يتمتعّون بالتميّز البشري عن بقية أبناء شعبهم وتحرِّكُهم مشاعرُ الاستعلاء على القطيع.
الموضوع ليس سياسيا فقط وليس اجتماعيا فقط. هذه الظاهرة تنتشر على الأخص بين أشباه المثقفين المتكاثرين في ظل أزمة الثقافة العربية والفكر العربي، وسيادة الفكر الغيبي، فكر الخرافات والشعوذة، فكر تغييب العقل وتغييب المنطق، فكر التهريج بلا أي حسّ انساني أو القدرة على فهم سليم للواقع والوسائل النضالية الأكثر ملاءمة وتأثيرا في ظروف بالغة التعقيد والتركيب.
هناك حقا من يملك قدرات فكرية قد تتطوّر لو تخلّص من الحلقات المغلقة التي تقيّد فكره، لكن مجرّد دخول النيتشيه الى فكرهم وسيطرتها على عقولهم وتصرّفاتهم، بوعي او بدونه، تحيلهم الى نرجسيّين مغرورين، مضرّتهم أكثر من فائدتهم وصمتُهم وعزلُهم مكسبٌ كبيرٌ لمجتمعاتهم.
من المؤسف أيضا ان الكثير من السياسيين في أيامنا نيتشيّون (من نيتشه) في عقليتهم وتصرفاتهم، ولكنهم ينسون أو يتناسون انهم عاشوا جلّ عمرهم كأفراد من القطيع ولم تتحرّر ذهنيّتهم من روح القطيع. النيتشيه هي مسار لمن يفتقد القدرة على التفكير ويدور في حلقة مفرغة من السياسات والمواقف والثقافة غير القابلة للنقاش، ومن العقائد التي توهمه انه سوبرمان في كل نشاطه وعقائده ومواقفه.
يُعتبر فريدريك نيتشه من الفلاسفة غير العقلانيين، دعا في وقته الى القضاء على القواعد الأخلاقية القائمة ونعتها باللاأخلاقية. الحياة في رأيه ليست غريزة بل “ارادة قوة” انها “ارادة القتال والسيطرة” حتى الخير بنظرة هو ان “يكون المرء شجاعا” ويطلق على ذلك اصطلاح “تأكيد الذات“.
استنتج نيتشه ان اوروبا تقف على مشارف ازمة قاتلة ورأى ان السبب في نشوء هذا الوضع يعود الى عدة عوامل على رأسها الدين معلنا “موت الله” (اوضح انه لا يقصد الله الخالق لأنه لا يعتقد بوجوده بل يقصد الله في اذهان رجال الدين الذين يعتقدون ان الله يدير الكون والانسان) والنظريات الديمقراطية والاشتراكية التي بدأت تنتشر في فكر النهضة الأوروبي، الداعية الى المساواة بين الجميع ومن هنا لجا نيتشه لتصفية حساباته مع الدين والنظريات الانسانوية ووصفها ب “اللاأخلاقية”!!
كان يرى بالفن والأخلاق مجرد ترياق من سموم “النيهيلية” (العدمية)، التي تعني حسب نيتشه ان القيم الرفيعة تفقد قيمتها وتوازي حسب تعبيره الانحطاط، طور مذهب “ارادة السلطة” حيث يسيطر الأفراد “الأقوياء” القادرون على خلع الحواجز الأخلاقية، هكذا توصل الى فكرة الإنسان الأعلى (السوبرمان) نافيا الأخلاق تماما، وهي ما أعجبت كل الحركات الفاشية وجعلت من نيتشه زعيمهم الروحي وفيلسوف منهجهم القمعي والديكتاتوري الاستبدادي والكارثي على شعوبهم في الحساب الأخير.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط