الانغلاق الفكري والأخلاقي وإشكاليات الضوابط والمحددات الانسانية

د.عبد الامير البدري

Image preview

اغلب الحيوانات تختلف عن الإنسان في انها بحكم ضعف مدركاتها العقلية لا تعاني من ازمة ضمير فكل شيء لديها واضح اسود وابيض وليس في وعيها تدرج الوان متعددة، وكل شيء له وجه واحد لذلك فالنفاق غريب في عالم الحيوان وهو حكر على الانسان! وحسن الظن هو قاعدة التفكير لدى الحيوانات ولهذا تراها تثق بالانسان بسهولة رغم كل تجاربها المرة معه فأكبر كوارث المخلوقات التي سبقت الانسان في الكرة الارضية هو ظهور الانسان فيها! وقد رأيت كلابا تنقذ اسماكا اصطادها صاحبها وتعيد رميها في الماء احتراما لحياة السمك ورأيت قطة ترضع جراء اسد وقرودا تربي قطط،اما البشر فانهم بحكم تفوقهم العقلي على اغلب الحيوانات يبدون بصوة مختلفة عن عالم الحيوان لدرجة تبعث على الصدمة لان الوعي والذكاء الانسانيين بدل ان يكونا اداة خير ومحبة نراهما يتحولان لدى البعض الى وسيلة ايذاء للاخرين بتفنن وعبقرية!

يبدأ افساد الضمير باقناع الشخص لضميره، او العكس ضميره هو من يبدأ بالاغراء، بان كل ما يفعله ويخدمه صحيح وهو الحق، وفي نقطة تحول نوعية مثل هذه تبدأ رحلة موت الضمير،ثم يبدا الضمير الفاسد بالبحث عن ضمائر اخرى يمكن قتلها على ان يبدأ القتل بتخديرها باوهام تضلل اصحاب وعي متخلف او ذوي طموحات غير مشروعة فيصطادهم بالوعود، واذا كان المستهدف بالاغراء واعيا فان توريطه يبدأ بالخداع بالقول: لنتمسك بالقانون والنظام حتى وان ظهرت اشارات الى وجود ظلم هنا او هناك فان منظومة العدالة قادرة على التصحيح من الداخل فلا ضرورة لتهديم كل المنظومة من اجل قاض فاسد حتى لو كان في قمة الهرم! وهكذا يبقى القاضي الفاسد هو حامي منظومة الفساد،ويستمر بالبت بالامور الخلافية فيستسلم الواعي للكلام المعسول ويقتنع ولو مؤقتا بانه ربما يكون صحيحا وان عليه ان يجرب كلام القاضي ووعوده فذلك اسهل من رفض كلامه والذي قد يؤدي الى عزل او اقصاء القاضي الادني المعرض للاغراء والافساد، فنرى احدى ام المصائب وهي ان القضاة يتكيف ضمير بعضهم تدريجيا بقوة وهم او ايهام ان ما قاله القاضي الاعلى وحتى لو لم يكن كله صحيحا فان طاعته ضرورية لبقاء نظام العدالة العام وفي حالة وجود خلل او ثغرة في نظام العدالة فانه مع ذلك يبقى افضل من الفوضى وغياب نظام العدالة!

هكذا يتعرض الضمير الجمعي للارتباك وهو الشرط المسبق للتزييف والتضليل،ولو نظرنا الى العراق بعد الغزو لراينا هذه الظاهرة بصورتها الانموذجية الواضحة والتي يرى تفاصيلها حتى من غبش بصره وهي ان مجلس القضاء الأعلى وانموذجه هو رئيسه السابق مدحت المحمود فقد ضميره واخذ يستخدم العدالة وسيلة للاثراء له ولبطانته من قضاة الخط الثاني والثالث ويمارس باسم القانون كل انواع الانحراف ويظلم الملايين ارضاء لشهواته او تلبية لاوامر من يسندونه ويبقونه كبيرا للقضاة حيث لا يستطيع محام او قاض تحته الاعتراض على قراراته هو وان اعترض محام اكتشف فساد القرارات وظلمها فان مصيره العزل الفوري مع تلفيق التهم القانونية الشكلية الجاهزه له،او انه يعثر عليه قتيلا في مكب النفايات! وهكذا يجد الضمير الحي صاحبه متهما او قتيلا لانه مارس حقه في نقد ظواهر الفساد والخلل واراد منع الظلم.

وفي هذه البيئه يبدأ الناس وهم يعيشون عند حافة الموت باللجوء للدافع الغريزي وهو حب البقاء فيتعايشون مع واقع فاسد ومفسد، ولا يبقى الضمير قويا الا في قلاع جماعية معزولة ومتناثرة،وهذه هي بداية النهاية لاي شعب او امة لان (الظلم اذا دام دمر) كما يقول المثل، فالقضاء الفاسد اذا استمر يخلخل حتى اسس تلك القلاع النقية الضمير، وتبدأ ام الكوارث. ان الصمت على فساد المرجع الاعلى في اي دولة او نظام او جماعة سياسية هو تبريره بترويج وهم قاتل وهو امكانية بقاء الامل في اصلاح المرجع الفاسد بالضغط عليه من تحت! وهذا هو احد اخطر العاب الضمير المتكيف مع حالة الفساد، وهو خداع وتضليل للتهرب من استحقاقات مواجهه المرجع الفاسد ومن معه، وهو تمهيد للقضاء على بقية العدالة،ويساعد على تردد بعض اصحاب الضمائر الحيه فيصبح المرجع الفاسد المشترى من قوى في الداخل وربما في الخارج هو الامر الناهي. ويجري كل هذا رغم وجود امكانية لاسقاط الفساد من داخل منظومة القضاء ذاتها وهي امكانية متوفرة وهي الاقوى والافضل ولكن بشرط وجود قرار شجاع.

تذكروا اهم دروس تاريخ الجنس البشري وهو ان الضمير ليس ماسة صلبه لا يمكن تغيير شكلها الا بالكسر بل هو كدماغ الانسان وجود رخو -رغم انه وجود معنوي- يمكن التلاعب به واعاده تشكيل صورته ووظيفته، وهذه هي خلاصة خبرة البشريه منذ فجر التاريخ حينما قتل الشقيق شقيقه في قصة هابيل وقابيل وكانت رخاوه الضمير لدى القاتل هي التي اقنعته بقتل شقيقه، فنحن في عالم اهم مامنحه الله لنا فيه هو الضمير سيد الانسان ومحدد خياراته لكن هذا السيد رخو ويمكن تكييفه بطرق معروفة، ولو بحثنا في الكوارث البشرية لرأينا ان هذه الحقيقه هي التي تسببت بها، فلولا رخاوة الضمير لما برزت الحركة الصهيونية واحتلت فلسطين، ولولا رخاوة الضمير لما قام الاستعمار الاوربي بغزو الشعوب ونهب ثرواتها وابادة الملايين منها، ولولا رخاوة الضمير لما راينا قتلة يذبحون البشر بالملايين وهم يبتسمون ويشعرون بالنشوه رغم ان ضحاياهم لم يرتكبوا عملا ضدهم وهو ما رايناه في وجه جورج بوش الصغير وجيشه بعد غزوه للعراق، ولولا رخاوة الضمير لما سطا انسان على حقوق وتاريخ واعمال انسان غيره ولادرك ان ضحيته احق منه بكل ما سطا عليه من موقع او مال او حقوق، ولولا رخاوة الضمير لما وجدنا الانتهازي والمنافق وهما ينشران الخداع وتصوير موقفهما على انه مع وضد بنفس الوقت، فالانتهازي والمنافق هما نتاج ضمير مات او دخل مرحله الاحتضار، وهذه هي صورة عالمنا الذي تتحكم فيه اطراف دولية واقليمية لا يحكمها ضمير لانه زال وحلت محله الانانية وتلك هي نبع الفساد والافساد الاول للطبع البشري.

هل يمكن تغييب سؤال يطرق بوابات الضمير لدى نخب كثيرة وهو:كيف نناضل من اجل العدالة ونحن اسرى غياب العدالة وهيمنة نزوات ضمائر كيفت وتم شراؤها؟ واذا استسلمنا لمن فقد ضميره ما هي النتيجة؟ اليست هي اننا كلنا سنصبح ادوات الشيطان ومعاول هدم للقيم العليا ومحو لهويتنا القومية والوطنية بل ولزوال اي صلة لنا بالانسان السليم؟ الن نصبح خناجر تطعن قلوب اشقائنا وشقيقاتنا وجيراننا؟ وهل بعد كل ذلك سنجد من يجرأ على ادعاء انه مناضل من اجل الحقوق والعدالة؟

انقاذ العراق والامة العربية بكل كوارثها يبدأ بانقاذ الضمير وهو يبدا بمواجهة الحقائق، فالحدث الذي نراه في الواقع والتفسير الذي يقدمه له المرجع ما هو الا اكاذيب كاملة، والانسان الحي الضمير هو الذي يدقق فيما يراه ويحلله ويقارن ثم يحكم، ولا يقبل احكام المرجع بطاعة عبيد رغم انه يعرف انها احكام ظالمة ومسبقة تقوم على اقصاء عبيد الرحمن كي يسود عبيد الشيطان! ومن يروج الوعد بالتحرر من الظلم بالاعتماد على الظالم ذاته انما هو خداع للضمير ودفعه كي يتحول من بوصلة الحق والعدالة والاخلاق، كما كان وكما يجب، الى بوصلة مزيفة لا توصل الا الى الجحيم، والجحيم هو الظلم وغياب العدالة، ولكن اشد انواع الجحيم عذابا هو غياب العدالة وسط نخب تدعي انها تناضل من اجل العدالة! الانتهازي والمنافق يريان غياب العدالة ولكننا نراهما يقولان انه قرار مؤقت وسنغيره نحن الذين تحت عندما تتوفر الظروف المناسبة وهما يعرفان انهم يكذبان! المنافق والانتهازي يتجرأن اكثر ويدعيان ان بالامكان تغيير الضمير مرة اخرى ليكون صالحا مجددا ولكنهما يتجاهلان ان الشرخ في الزجاجة يبقى واضحا وخشنا حتى اذا لحمتها! بالنفاق والانتهازيه يفقد الضمير الى الابد الطبيعة التي خلقها الله بها وهي عفويته عند الولادة، ولكن بعدها يفقد عفويته تدريجيا وهي لن تعود اليه ابدا مثلما ان طفولته لن تعود مره اخرى، ما ان يبدا الضمير بالتكيف مع البيئة حتى يتخذ صيغته النهائية سواء صار بوصلة جيدة او سيئة ويصبح حالة ثابتة ومن المستحيل اعادته الي عفوية الطفولة والولادة لانك لاتستطيع اعادة براءة الطفولة لرجل كبير، لذلك تعلموا، ايها الاحرار، درس البشريه كلها الاهم وهو لا تقتلوا شقيقكم المولود من بطن حواء امكم استنادا الى النفاق والانتهازية وتضليل الضمير، ضعوا انفسكم محل الضحية، تخيلوا كيف يكون رد فعلكم حينما تتعرضون للظلم الذي يفرضه عليكم من تعدونه المرجع الاعلى لكم، فهذا المرجع فاسد بالاصل ولولا فساده ولولا رخاوة ضميره لما اصدر قرارات ظالمة وهو يعرف انها ظالمة، ولا كذب ولفق التهم لشقيقه وهو يعلم انه كذاب، هكذا مرجع هو نسل الشيطان مهما كان له ماض جميل، تذكروا احد اهم دروس الحياة وهو ان اقوى اسلحة الشيطان هي انه لا ياتيكم بوجهه الحقيقي القبيح بل دائما وابدا يأتيكم بصورة طفل تحتل قسمات وجهه ابتسامة براءة، او اب حنون يربت على كتفك حبا وفي يده الاخرى خنجر يعده للغرس في قلبك وانت تظن انه والدك لكنه ليس الا عدوك وقد لبس وجه والدك!

اما القوى الخيرة فتبقى هي الغالبة والمنتصرة حتما، لان الانسان العادي في القاعدة ووسطها يبقى نقيا حتى وان استسلم لواقع لايستطيع تغييره ويخشى من معارضته فيبقى احتياطيا ضخما للخير وللثورة على منظومة الفساد عندما تنطلق جحافل الثوار في لحظة العجز عن تحمل الظلم وتساوي الحياة مع الموت فتنقلب الأوضاع رأسا على عقب ويجد (محمود مدحت المحمود) رئيس القضاة الفاسد نفسه في مكبات الزبالة! وحتى في قمة الهرم يوجد الاتقياء وهم الاغلبية الصامتة والتي تنتظر ساعة الصفر.

واخيرا لنتعلم الدرس الأعظم وهو ان الاحترام لمؤسسة القضاء وليس للقاضي، ودرجة احترام القاضي تحددها درجة التزامه بقواعد العدالة وقوانينها وعندما لايتقيد بها يفقد كل احترام ولا يجد الا الاحتقار، وهذه القاعدة تضمن ان اي قاض يصبح عضوا في مجلس القضاء الاعلى لايتمتع بحصانة ويمكن اقصاءه حالما لا يتقيد بالنظم القانونية التي وضعت له كي يتقيد بها، الثورة اتية لامحالة والاغلبية الساحقة هم الشرفاء الذين مازال ضميرهم نقيا ويرفض الظلم، فقط انتظروا الفجر القريب ستسمعون بكاء القضاة الفاسدين وهم يتكونون في مكبات الزبالة. اتركوا القاضي الفاسد يظن انه منتصر وانه باق ودعوه يعربد ويشتم فهو يحفر قبره بيديه، وما علينا قريبا الا دفعه بحركة بسيطة ليسقط في قبره.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here