إعادة ترتيب الأولويات الفكرية لكي نعرف ما حدث: كتاب لينين (ما لعمل؟) بداية سقوط النظرية الشيوعية

إعادة ترتيب الأولويات الفكرية لكي نعرف ما حدث: كتاب لينين (ما لعمل؟) بداية سقوط النظرية الشيوعية
الدكتور قاسم خضير عباس
كاتب سياسي وخبير القانون
الجنائي الدولي والمحلي
[email protected]
إنَّ الأخطاء الجسيمة، على صعيد الفكر والتطبيق، أدت الى تخلف مزمن في كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد السوفيتي السابق، الذي شطب من الخارطة السياسية. ولذا كانت ديمقراطية (الجلاسنوست)، أي الكلام بصوت عالٍ وصريح، لممارسة (البيروسترويكا)، أي مرحلة البناء.
والتكلم بصوت عالٍ قد طال بالفعل كل شيء حتى التاريخ ومنعطفاته المليئة بالمآسي، وانتقدت الوقائع والأحداث المريبة منذ قيام الثورة البلشفية، حيث مقتل القيصر (نقولا الثاني) وزوجته وبناته الأربعة وولي عهده بعد خلعه في تموز 1917، ونقله الى بلدة اكاترينبورغ شرق جبال الأورال، وقتله بعد اجتماع رجال الحزب الشيوعي الذين قرروا قتل الأسرة المالكة السابقة في ليلة 16 تموز 1918. ولذلك أوقظ القيصر وأسرته وأخذوا إلى سرداب الدار التي اعتقلوا فيها وأطلقت عليهم النار فسقطوا أمواتاً ونقلت جثثهم بعد أيام الى ظاهر المدينة فسكب عليها النفط وأحرقت.
لقد انتقدت كل هذه الوقائع بتفاصيلها، مروراً بمجازر (ستالين) ورؤساء الكرملين الآخرين. ولم تنجو العقائد من (الجلاسنوست)، ونسفت الحتمية التأريخية، التي تبدأ بسيطرة الإقطاع كشيء حتمي وطبيعي ثم تظهر (البروليتاريا) كقوة حراك اجتماعي، عبر (صراع طبقي) يتصادم فيه رأس المال والعمل على أدوات الإنتاج !! والتي عبر عنها (ماركس) بأنها: شيء طبيعي لازم للمجتمع الإقطاعي عند تحوله الى الشيوعية العالمية !!
وإيمان (ماركس) بالحتمية التأريخية نابع من اهتمامه بظاهرة تحول المجتمع الأوروبي من إقطاعي الى رأسمالي؛ حيث لم يستطع (ماركس) إلا تلمس (العوامل الداخلية المنظورة) أما العوامل الأخرى، والتي هي بلا شك الأساس الطبيعي لهذه النقلة العلمية في أوروبا، فقد أغفل عنها بتعمد.
ولذا كان الخطأ كبيراً وجسيماً عندما ركنت (العوامل الأساسية المسببة للتطور التكنلوجي في اوروبا)، والتي أسماها الأستاذ منير شفيق في كتابه (الإسلام في معركة الحضارة): بالعوامل الخارجية التي ادت إلى أن تتطور وسائل الإنتاج في أوروبا، فلولا التوسع الأوروبي الخارجي وسيطرته على ثروات الشعوب واستغلال مقدرات 80 في المائة من موارد العالم لما انتقل من مرحلة الإقطاع الى مرحلة الرأسمالية.
وهكذا فإنَّ (ماركس) قد أخطأ خطأً فاحشاً عندما عمم (قانون السببية على الظواهر الاجتماعية المتناقضة والتي آمن بتطورها إلى حالة جديدة وهي البروليتاريا). في حين أنَّ هناك قوانين علمية أخرى لم يفهمها (ماركس) لها تأثير أكبر. ولذا فإنَّ الاتجاه الحديث في علم الاجتماع يدعو إلى دراسة (الظواهر والأحداث) بكل تفاصيلها وملابساتها الحقيقية للوصول الى أسبابها الواقعية.
على صعيد آخر فإنَّ بعض المهتمين بعلم الاجتماع دعوا إلى ضرورة إعادة كتابة كثير من نظريات ومبادئ هذا العلم، والبحث عن قوى حراك جديدة للمجتمع بديلة عن العمال و(ديكتاتورية البروليتاريا) المزعومة. فالعمال بلا شك قوة كبيرة لكنها ليست الوحيدة في العمل السياسي والتغيير المطلوب، لأنَّ هناك شرائح عديدة، وقوى اجتماعية لا يستهان بها في التحرك الثوري الصحيح، ومثقفون وشباب ساهموا في صنع أحداث تأريخية هامة.
بلحاظ أنَّ الاتحاد السوفيتي السابق قد اصطدم بهذه الحقيقة عند تطبيقه (للفكر الماركسي) بشأن (صراع الطبقات)، ولم يجد أمامه إلا طريقة خرافية للتخلص من هذا المأزق الفكري، وذلك بتحويل المجتمع إلى (عمالي نظرياً)، فالفلاح، والمخترع، والمثقف يعتبرون عمالاً حكوميين يعطون بقدر ما ينتجون.
وهذا بالتأكيد قفز على الواقع، وتزوير للحقائق والقوانين الطبيعية، لأنَّ المجتمع كتلة حية تساهم فيها شرائح بشرية متباينة الثقافات للوصول إلى أفضل النتائج في عملية البناء وصنع الحضارة والتقدم. من هذه الزاوية بالذات كتب (لينين) كتابه (ما العمل…؟) ليجيب من خلاله على تناقضات مخيفة ظهرت في الفكر الماركسي، وليوفق قليلاً بين النتائج ومقدماتها، وبين النظرية والتطبيق بشكل مؤقت وآني.
ولا ننسى في هذا المجال (فريدريك أنجلس) الذي وصف (برنامج البيان الشيوعي): (بالشائخ) بعد مضي خمسة عشر سنة على كتابته لأنه أحس بأنَّ هناك خطأ ما في الفكر، أدت إفرازاته الى عدم إشباع حاجات أساسية في المجتمع، تلك الحاجات التي ظلت تتدهور في الاتحاد السوفيتي وساهمت في زيادة الامتعاض في نفوس الناس بشكل خطير، حيث انفجرت الأوضاع أول مرة بشكل ثورة فلاحين أدت الى سحقهم بقسوة من قبل (ستالين)، الذي يرى بأنَّ النظرية الماركسية يجب فرضها بالقوة وبأي ثمن لتسود دكتاتورية العمال دون اعتبار لوجهات نظر الرأي الآخر المعارض. وبعد سحق الفلاحين لم تمت اختلاجات النفوس المحرومة، وتطلعها لظروف أكثر واقعية وأكثر اهتماما بمشاعر الإنسان ومتطلباته الأساسية.
وهكذا فإنَّ التغيير السريع في البنى السياسية والاقتصادية التحتية في الاتحاد السوفيتي السابق لم يكن آنياً ولا عفوياً، بل تفاعلت عوامل تاريخية ونفسية كثيرة في إحداثه، حيث سفّهت أفكار ومبادئ ومعالم هامة، كانت تعتبر الى حد قريب تقاليد وتراث مقدس لا يمكن مسها عبر عقود طويلة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here