داروين ونظرية التطور واصل الانسان : كيف نشأت الحضارة ؟

داروين ونظرية التطور واصل الانسان : كيف نشأت الحضارة ؟ (*) د. رضا العطار

الحضارة نتاج جملة عوامل، عندما تجتمع معا، يتألف معناها. ففي الناس طوائف تعيش في الغابات بعيدة عن الحضارة او بدوا في الصحراء ليسوا متحضرين الاّ بمقدار ما اكتسبوه من اهل المدن من لباس وثقافة بسيطة تلقنوها منهم في كيفية تدجين الحيوان او الايمان بآلهة او معرفة شئ عن سير الكواكب والنجوم.

فنحن نفهم من معنى الحضارة اناسا يعيشون معا في مقام لا يرحلون عنه، لهم صناعة او زراعة يرتزقون منها ولهم نظام اجتماعي ونظام حكومي ولهم شئ من ثقافة الدين او العلم قلت او كثرت. ونحن نعلم ان الحضارة نشأت بعد ان سبقها دهر طويل جدا من حالة البدائية المتوحشة الاولى حيث كان البشر يقتات على جذور النباتات والاثمار البرية والحشرات والديدان وعلى صغار الحيوانات على نحو ما تفعل القردة العليا الان.

كان الانسان يستأثر بأكثر من انثى ويمنع سائر الذكور من الاقتراب منهن. ثم اخذ الانسان يقترب من بني جنسه لأجل الصيد. فساعده ذلك على تحقيق وتطوير صناعة السلاح من الأحجار. واوجد حرمة لنسائه وقت غيابه، وهذا اول الأخلاق. كما كان اجتماع النساء معا تحفيزا وتنشيطا للسان على الكلام وايجاد لغة التفاهم بدل لغة الاشارات التي تتعذر في الظلام.

لقد استأنس الانسان بصغار الحيوانات الصغيرة التي ذبحت آباؤها في الصيد ولكن كل ذلك لم يكن ليكفي لأيجاد حضارة. فقد كان الانسان لا يزال يعيش عريانا لا يعرف شيئا عن الصناعة الى جانب جهله بالقراءة. ولا يعرف من الدين سوى ارواح الغابة وما يتشوش به ذهنه من الاحلام. والحقيقة انه لم يكن في حاجة الى الحضارة. فقد كان متشردا لا يهدأ بمكان ولا يطمئن الى شئ.

وانما عرف الانسان الحضارة حينما عرف الزراعة. لأن الزراعة تقتضي الأقامة بمكان لا يُبرح. والاقامة تستدعي السكنى في كوخ فتنشأ صناعة البناء ثم يحدث استئناس الحيوان الذي يجري اتفاقا وقت الصيد، تدجينا دائما، فتعرف على الالبان والاصواف والاوبار وعرف ايضا من اللبن الخميرة التي ارشدته الى عمل الخبز. والزراعة تستوجب معرفة التوقيت المحكم، فأضطر الى معرفة حركة الكواكب، والتوقيت القمري لا يفيده في شئ، فالتجأ الى معرفة السنة الشمسية، ثم هذا التوقيت لا يمكن اتقانه ما لم يضبطه بالكتابة.

يقول كاتب السطور : من المعلوم ان الحضارات الأولى نشأت عند الامم الزراعية في البلاد المعتدلة الحرارة مثل بلدان الهلال الخصيب، واقدم حضارات العالم في التاريخ هي الحضارة السومرية. حيث يؤكد العالم الامريكي ثوركيد جاكبسون من جامعة شيكاغو في كتابه (ما قبل الفلسفة)، بأن ( اولى مغامرات الأنسان الفكرية في التطور البشري ظهرت في حضارة سومر لبلاد الرافدين في منتصف الالف الرابع قبل الميلاد. والتي اتخذت النظام الديمقراطي سبيلها في السياسة ).

والمنطق والتاريخ يؤيدان هذه النظرية فان الانسان كان طيلة الوقت الذي سبق اكتشاف الزراعة خلوا من اي معنى للحضارة وكيف يكون متحضرا من يعيش في الغابة. فان هذه الحياة لا تتطلب منه معرفة اية صناعة سوى صناعة الصيد. فمن المنطق ان تكون الزراعة الاولى قد نشأت في بلاد معتدلة الحرارة مثل العراق القديم حيث تكثر فيه الانهار والاهوار. بينما تعذر نشوءها في المناطق شديدة الحرارة مثل حوض الامازون في البرازيل حيث تكثر غاباته واحراشه التي لم يقدر الانسان في التغلب عليها، وكذلك في المناطق شديدة البرودة مثل بلاد الاسكيمو.

اما كيف عرف الانسان الزراعة فلا يزال موضع شك. لكن اعتقد العلماء انه عندما كان الانسان القديم يدفن ميته، يضع معه بعض الاثمار حتى ( يأكلها ) فقيده. فكانت بذورها تنمو زكية لانها تتغذى بسماد الجثة، فكان هذا داعيا الى تنبيه ذهنه الى الزراعة والى الايمان بارواح الموتى ايضا، ومن هنا ارتقى الى الايمان بالالهة. وفي العصر الراهن تضحي بعض القبائل المتوحشة بأحد افرادها، اعتقادا منها ان الزرع لا ينمو الا عن واسطة ميت ـ ـ ـ وهنا نشأت فكرة الملكية. لأن روح الميت جعلت الارض حوله حرما له يزرع فيها ما يشاء. وليس لأحد سواه ان يتمتع بهذا الحق.

وبعدما نشأت الزراعة وتقدمت، اتجهت نحو الشمال بالتدريج. في فينيقيا على الساحل الشرقي للمتوسط ثم في بلاد الاغريق ثم ايطاليا ثم اوربا صاعدة، واغلب الظن ان الزراعة نشأت على يد الرقيق. وللرق فضل على الانسان لانه علمه مزاولة العمل والاقلاع عن حياة الكسل والتشرد في الغابات. وكما كانت الزراعة اصل الحضارات القديمة فهي لا تزال اساس الحضارات الحديثة ولكن الاثر الاجتماعي للزراعة يختلف عن اثره في الصناعة. فالاول يدعو الى تشتيت العمال وانشاء حكومات استبدادية، تشجع نظام الظلم الاجتماعي المتمثل في استغلال الاغنياء للفقراء.

اما اذا كانت الحضارة صناعية، فان اجور العمال تبقى مرتفعة، وتكاليف المعيشة غالية، وارتفاعها يدعو الى احترامهم لانهم لا يظهرون بمظهر الفقر المهين. والعمال يتجمعون حول المصانع ويتعاونون على صيانة حقوقهم وهنا تنشأ الحكومات الديمقراطية — ومن هنا نفهم السبب في ديمقراطية الحكومات الاوربية.

الى الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here