وادي الارواح / رواية / الفصل التاسع

وادي الارواح /رواية/الفصل التاسع

ذياب فهد الطائي

أمطر عليهم (منّا) للأكل و برّ السماء أعطاهم ،كان هذا في أسفل صورة على الصفحة الاولى لمجلة (كومنثاري ) ،كانت الصورة لمجموعة من الملائكة وهم على هيئة اطفال باجنحة مفتوحة ، والنص يعني اننا نأكل المن والحنطة ، وهو من أحد المزامير، ولكن الكاتب وهو حاخام يهودي ، لم يذكر ما إذا كنا نأكل الحنطة نيئة أم مطبوخة ،كما لم يبين أين يتم طبخ الحنطة وما إذا كنا نتناولها بمجموعات أم في بيوتنا ،

يشغل سكان الكون الارضي أنفسهم في تحديد هويتنا نحن الملائكة، وليقرب لهم رجال الدين الصورة لاقناعهم إنهم قريبون من السماء ، يشرحون لهم ما نأكل …يقولون لهم اننا نأكل المن والحنطة ، لأن هاتين المادتين هي حلم البشر ،البعض اثر أن يجعل الموضوع ملتبسا فقال على لسان الملائكة (لى طعام لآكل لستم تعرفونه طعامى ان افعل مشيئة ألذى ارسلنى وأتمم فعله) ، لآ أدري لم ينشغلون بطعامنا ؟ ربما لآنهم لا يمكن أن يتصوروا مخلوقات (القدير ) إلا على شاكلتهم ، أغمضت عيني وبدأت اشعر بالنعاس حين رنّ جرس الهاتف عند سريري،

-السيدة ماري تود الحديث معك …هل أحولها لحضرتك؟

-نعم

-هاي جي جي

-هاي ماري أنت في البيت ؟

-نعم…ولكن ماذا جرى معك ؟ لماذا أخذوك الى التحقيق ؟ زميلتي رأتك مع الشرطية وأنتما تدخلان غرفة ضابط تحقيق المطار

-لا شيء جدي وحين أراك سأشرح الملابسات

– أسفة لا أعتقد إنا يمكن أن نلتقي قبل الأسبوع القادم لأن رحلتي مساء اليوم الى بروكسل

– حسنا حين عودتك اتصلي بي

-الى اللقاء

-الى اللقاء

لم أشعر بالارتياح فقد داخلني إحساس ملتبس بأنها مترددة في الموافقة على اللقاء، ربما هي خائفة مما قد يترتب على لقائي بضابط التحقيق في المطار ولا ترغب أن تكون على علاقة بمشبوه أو متهم، وهي موظفة وحريصة على وظيفتها ،وفي هذه الأيام ليس من السهل العثور على عمل مناسب،

قررت أن أعود الى النوم فهو سيلهيني عن التفكير …أطفأت النور فغرقت الغرفة بظلام دامس ،قمت لأفتح ستارة الشباك المطل على الشارع ليتسلل بعض الضوء الى الغرفة فأنا أكره الظلام لأنه يسمح للأفكار بأن تتمدد دونما حدود ، كما إنه ستار الخطيئة ،وقال المسيح حين قبض عليه اليهود(هذه ساعتكم وسلطان الظلمة) ،إصطدمت بالطاولة الصغيرة فأحدث سقوط إناء الماء والقدح على الأرض صوتا بدا مركبا وهو يتكرر بتدحرج الإناء الزجاجي وارتطامه بالجدار ، في السماء كان النور عنوان الحياة ولم يغب عن أماكننا طيلة ملايين السنين . إرتديت ملابسي على عجل ودار في خلدي أن أجرب ركوب مترو الانفاق …علي أن أشاهد لأتعلم ، لم أكن أقصد وجهة معينة ، الناس الذين سيركبون المترو وهم عائدون الى بيوتهم ،ما هي الانطباعات التي قد تظهر على ملامحهم ؟

صعدت الى المترو رقم 6 ، لم يكن في بالي إنه يذهب الى بركلين حيث نادي بوسا نوفا ،العربة كانت مزدحمة مما اضطرني الى الوقوف مستندا الى العمود الحديدي ،دخل رجل دين ،كان يحمل مجموعة من الكتيبات الملونه ، بدأ يلقيها بأحضان الجلوس حتى دون استئذانهم ، إمرأة سوداء مكتنزة وعلى رأسها قلنسوة بنية ، كانت تبدو متضايقة فقد بدت قسمات وجهها متقلصة وعدوانية ، رمت الكتيب الملون من حضنها وصرخت

-أنت ….من طلب منك هذه المهازل ؟

-ليمجد اسم الرب في السماء

انحنى ليلتقط الكتيب ، شدته المرأة من شعره فجاء بكفها وبدا راسه شديد الحمرة، ضجت العربة بضحك متفاوت فقد ابتسم البعض للمفارقة ، نهض الرجل واسترد الباروكة السوداء التي كانت تضفي على وجهه وسامة ،كما كانت تؤثر في المستمعين وهم يتابعون حركة خصلات الشعرالمنفلتة وهي تتحرك على جبينه وصدغيه ،

قالت المرأة-أنت تبتزنا باسم الرب …إذهب الى الجحيم

توقف المترو في محطته الأخيرة ،حين خرجت من المحطة واجهني جسر بروكلين العملاق ….في منتصف الطريق الى عبور الجسر كانت فتاة بيدها قنينة نبيذ أحمر تقف على السياج فيما ينثر الهواء شعرها ويفتح معطفها البيج وكأنه جناحين ، حين رمت نفسها الى النهر توقفت حركة المرور وعند موقف الفتاة تجمع عدد من المارة ، كانوا يتبادلون حديثا عن الشيطان الذي دفعها ، تطلعت حوالي والى النهر …لم يكن أي من الشياطين حاضرا،قالت فتاة في العشرين :انها زميلتي في السكن ….خلال الاسبوعين المنصرمين زارتها الشرطة ثلاث مرات بتهمة الدعوة الى العصيان المدني …لا أدري عن أي عصيان يدعون وهي بلا عمل منذ سنتين وتعمد الى سرقة مشروبها من المخازن المجاورة ،

لم يعلق أحد ، كان رجلا يسير غير مبال يزررجاكيته البني ويرفع قبة البلوز الاسود الى أعلى رقبته …

قلت له –لماذا لم يتدخل أحد ؟

التفت نحوي متفحصا –لو تدخل أحد في قضايا المنتحرين لتوقف العمل في نيويورك !!

كان مقرورا وفي عينية نظرة منكسرة وكأنه خائف من أمر ما ،قلت له

-هل تقبل دعوتي لنشرب القهوة بعد الجسر

نظر الي بشيء من الشك

-كيف أشرب القهوة وأنا لم أتناول شيئا منذ ظهيرة أمس!!

-حسنا يمكن أن نتاول بعض الطعام ، ولكن لابد من القهوة !!

كنت أود ممازحته ولأ مدّ جسور الثقة بيننا

-لابأس

كنت اعتقد إنه سيشكرني أو على الأقل ينظر نحوي بشيء من الاعتراف بالجميل لتعاطفي معه، سار الى جانبي صامتا،بدا الجو في أواخر تشرين باردا فيما ينساب نهر (الشرق ) بهدوء حذر وكأنه يخشى أن تهب عاصفة تعلن بدايات التغير في مناخ نيويورك ، كنا نتجه الى منهاتن ،عند نهاية مقتربات الجسر على الجهة اليمنى كانت مقهى ( لورباكي) تطل على النهر مباشرة ، تقدم المقهى وجبات خفيفة من شطائر النقانق والجبن ،حين دخلنا شعرنا بالدفء وكانت رائحة القهوة تنتشر في جو المقهى باعثة على الاسترخاء …جلسنا الى الشباك المطل على النهر الذي كان يستقبل الامطار الثقيلة فيما تتدافع الاف الموجات المتلاحقة وكأنها تتكسر، ويتلون الماء بغرين أخضر يكشف صلابة الطبيعة وعنفوانها حتى عندما لاتحدث صخبا عاليا ، التهم الشطيرتين دون أن يتطلع نحوي أو ينتبه الى النادلة الشقراء وهي تنحني لترفع الصحن الفارغ الذي اصدر صوتا برنين منغم حين ارتطمت به المدالية التي كانت مربوطة بسلسال ذهبي في رقبتها

-هل أنت شيوعي ؟

فاجأني السؤال ولكني تداركت نفسي –لا ….

اردت ان أمزح معه –أنا ملاك

-رجلا بمشاعرك الرقيقة لا يمكن أن يكون ملاكا

-غريب ….الملائكة مشهورون بالرحمة

-لا ..الملائكة إما يدمرون الحياة البشرية لأنهم يعملون مع (القدير ) للإنتقام من العصاة لأوامره ، أو يسحبون الخطاة الى النار

-لقد انقذوا بني اسرائيل حين هربوا من مصر عند عبورهم البحر الاحمر ، كما رفعوا يسوع حين قرر اليهود إعدامه

– نعم يتدخلون لصالح الانبياء وليس الفقراء

-إذا كنت تكره الملائكة هل تحب ابليس ؟

– لا …أحب كارل ماركس !….كان دائما مع الفقراء

-كارل ماركس مرة واحدة !

اعتدل في جلسته ونظر في عيني مباشرة وهو ينزع القلنسوة السوداء التي بدت رثة وقال- انك لايمكن ان تحب ماركس على دفعتين

شعرت إن وراء الرجل حكاية فهو ليس كما يبدو ولكن الجوع والعوز هما اللذان جعلاه مشردا ،

-لقد احببت ماركس وانا في السنة الاخيرة لدراستي الاقتصاد ، كنت أناقش استاذ المادة في موضع توزيع الثرة وبعد إن شرح لي الموضوع نصحني بأن اطلّع على ملخص مبسط لكتاب رأس المال ، منذ ذلك الوقت بدأ عشقي لماركس وقد كلفني هذا العشق الكثير ….أنصحك ألا تعشقه

-شكرا …كدت أتورط ولكني تركت الحافلة بأول محطة ….

-حسنا فعلت…أشكرك ولكن علي أن أغادر

قالت النادلة الشقراء وهي تقدم لي كوب القهوة الثاني – هل تعرف الاستاذ كلبرت ؟

-لا ….هل تعرفيه

-نعم درسني في الثانوية قبل خمس سنوات قبل أن يعتقل

-لماذا ؟

-كان يحرّض الطلبة على التظاهر بحجة فساد النظام الرأسمالي ،ولسنتين لم نسمع عنه شيئا ، ثم ظهر وكأنه فقد الكثير من مخزون ذاكرته ….حاولنا أن نساعده عن طريق منظمة طلابية صغيرة ، ولكن منعنا من إدارة المدرسة اولا ،حيث طلبوا الإبتعاد عنه ، ثم من الشرطة.

خرجت الى الشارع الذي بدا هادئا فيما تقطعت السحب في سماء نيويورك وبدا كل شيء نظيفا يشعرك بلذة الحياة رغم قليل من البرودة، في السماء لم تكن الفصول تتغير كما إن الامطار لم يحصل ان زارتنا ، كنا بدون هذا الكم من الملابس التي يتدثر بها البشر وهم يتراكضون ليلحقوا بوسائل النقل أو ليندسوا في سيارتهم ، ولم يحدث ان إحتجنا لها لأنا لا نملك تفاصيل الاعضاء التي قد نضطر لتغطيتها ، كما لم نفكر بها لأنا وجدنا انفسنا كما نحن ،

استوقفت سيارة تاكسي لأصل محطة المترو رقم 6 ، لم يكن الا عدد صغير من الاشخاص بدو مخمورين ،فقد كان كل منهم يتطلع عبر الشباك الى المصابيح الكهربائية وهي تمرق مسرعة الى الخلف ،حين نزلت من المترو كان علي أن أقطع الطريق المنعزل والذي يفتقر الى الإضاءة الكافية مشيا، لأنها لاتزيد عن خمسة مئة متر

أوقفني إثنان من الأفارقة ،كانا في الثلاثينيات تقريبا ، وقف الأول أمامي والثاني تخلف خطوتين خلفي ،مما جعلني أخمن انهما يتعرضان لي ،سألني الاول

-سيد هل لديك عود ثقاب لسيكارتي ؟

-لا …أنا لا أدخن

– أنت تكذب … تسخر منا لأنا أفارقة

-أنا أيضا أجنبي

لحظت ان الذي خلفي انحنى وقدرت إن الاخر سيدفعني لأقع ويتمكنا من

سلبي، قفزت الى الخلف متجاوزا المنحني بحركة ادهشتهما ،تمالكا نفسيهما وأخرجا سكينين

-بلا مشاكل …إفرغ جيوبك ولا تتشاطر فقد يكلفك حياتك

أضاءت سيارة قادمة نحونا المكان فتراجعا ، وصلت السيارة التي يستقلها شرطيان

-هل حاولا الإساءة اليك

ابتدرني السائق وهو يشير نحوهما

-لا إنهما كانا يسألان عن عنوان لا أعرفه

-حسنا …سنكون في المنطقة انتبه فالمنطقة ليست امنه

-شكرا

حين غادرت سيارة الشرطة تقدم الافريقيان نحوي

-نحن مدينون لك ايها السيد ،هل نوصلك الى عنوانك ؟

-شكرا فالفندق قريب …الى اللقاء

-تصل بالسلامة وتصبح على خير

في السماء نحن لا نتعرض لمثل هذه المواقف (الامن مستتب ) لأن ( القدير ) هو الحاكم المطلق وهو يعرف مابين أيدينا وما خلفنا ،قطعا لايمكن أن نغفل عن ذلك، في نيويورك حيث تستند الحكومة المحلية الى القانون وحقوق الانسان والديمقراطية ، الأمر مختلف تماما ، ولكن ماذا لو اصبح هتلر أو ستالين على رأس الحكم في العالم ، كيف سيكون حال الأمن في الشارع ، مثل هذا التصور يكون مرعبا والحياة في الكون الأرضي لا تسمح بذلك بسبب تنوع الامزجة واختلاف القناعات ، إنه مختلف .

والمختلف ايضا ، إنا لا نتوزع أقواما أو قبائل أو حتى دولا يمتلك كل شريحة ،مهما كانت، فكرا مغايرا ….في السماء نحن لا نقبل الاختلاف ولهذا تم طرد ابليس رغم انه كان الاكثر قربا من ( القدير).

ربما المفارقة تكمن في إن كلا منا محكوم بسلطة (القدير ) ولكن الاختلاف يكمن في مساحة الحرية التي منحها لسكان الكون الأرضي ليختاروا طريق حياتهم (وهديناه ) النجدين ، او(وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب اختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون) ؛ اما بالنسبة لنا فلا خيار لدينا ، وفي الحقيقة هذا هو بنية وجوهر ما يعانيه سكان الكون الارضي من حروب واقتتال من أجل السيطرة والاستغلال ،في حين إنا نعيش بسلام ، اعني بالنسبة لي حين كنت من الملائكة !!!!

أعرف أني لجأت الى مقارنة غير منطقية ، ولكني حاولت أن أقرب الصورة لإمكان فهم أثر نظام الهيمنة على سلوك المحكومين في السماء أو في الكون الأرضي.

حين دخلت الفندق كانت فتاة الاستقبال ما تزال على كرسيها المرتفع فيما يسود هدوء شامل كانت الاضاءة المرتفعة كإنها تؤكد حضوره ، حين ناولتني مفتاح الغرفة لمحت بقايا اثار دموع في عينيها ، ترددت في الاستفسار ولكني

قلت-ارجو الا يكون قد حصل معك مكروها ؟

اجابتني بصوت عميق يكشف حصول أمر محزن- لم يحصل شيء !

ولكنها كانت تختض

-اسف للسؤال ولكن وضعك غير مطمّن

-لا شيء ، فقط هذه اخر ليلة لي معكم …..لقد تم فصلي من عملي

-لماذا ؟

-قلة الزبائن بسبب كورونا والاجراءات المشددة في التنقل وتدني حركة السياحة…..مع العمل أعاني من تراكم الديون فكيف سأواجه الحياة ،ولدين وابي العاجز …اسفة يا سيدي

في السماء ليست لدينا هذه المشاكل ف (القدير ) تكفل بكل المتطلبات ، ورغم انها قليلة فقد حددها ابتداء حين أوجدنا ….مجتمع الملائكة يعمّه الهدوء والسلام .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here