الحكمة فن التعبير عن العلوم و الفلسفة و الثقافات

الحكمة فن التعبير عن العلوم و الفلسفة و الثقافات

حسن عجمي

الحكمالوجيا مُركَّبة من “الحكمة” و “لوجيا” بمعنى عِلم وبذلك الحكمالوجيا عِلم الحكمة. تدرس الحكمالوجيا الحكمة بهدف إيضاح معانيها و دلالاتها و أدوارها. ضمن هذا السياق ، تعرِّف الحكمالوجيا الحكمة على أنها فن التعبير عن المعارف والمعاني باختصار ما يتضمن أنَّ الحكمة فن اختصار المعاني والمعارف. بكلامٍ آخر، الحكمة فن التعبير عن العلوم والفلسفة والثقافات بعبارات مُختصَرة.

مثلٌ على الحكمة قول أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد”. إذا نظرنا إلى هذه الحكمة فسوف نجد أنها تعبِّر عن معارف و معان ٍ علمية دقيقة من خلال عبارة قصيرة ما يبرهن على أنَّ الحكمة هي فن التعبير عن المعارف والمعاني باختصار. وبذلك الحكمة نتيجة إنتاج المعرفة والمعنى لأنها تنشأ بعد نشوء النظريات والنماذج العلمية والفلسفية و تصوغ تلك النماذج والنظريات بعبارات مُختصَرة متضمنة للمعاني والمعارف الجوهرية ضمن النماذج والنظريات الفلسفية والعلمية. فحكمة أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد” تعبِّر عن أنَّ القوانين الطبيعية حتمية و ليست احتمالية و لذا الله مُنظِّم الكون و خالقه لا يلعب بالنرد المحكوم بالاحتمالات.

التعبير عن أنَّ قوانين الطبيعة حتمية و ليست احتمالية يتضمن أنَّ نظرية ميكانيكا الكمّ القائلة بأنَّ قوانين الكون احتمالية ليست نظرية صادقة بل النظريات العلمية الصادقة هي تلك التي تصوّر قوانين الكون على أنها حتمية تماماً كما تفعل نظرية أينشتاين العلمية على نقيض من ميكانيكا الكمّ. هذا يعني أنَّ حكمة أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد” تعبِّر عن رفض أينشتاين لنظرية ميكانيكا الكمّ التي تصرّ على أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية وبذلك هذه الحكمة هي أيضاً دفاع عن نظريته العلمية التي تصوّر قوانين الطبيعة على أنها حتمية بدلاً من احتمالية. هكذا تختصر حكمة “الله لا يلعب بالنرد” جدلاً علمياً أساسياً بين الذين يناصرون ميكانيكا الكمّ و الذين يرفضونها من خلال تعبيرها عن أنَّ القوانين الطبيعية حتمية.

أما قول الفيزيائي ستيفن هوكنغ “الله لا يلعب بالنرد فقط بل يرميه أحياناً حيث لا نراه” فحكمة مناقضة لحكمة أينشتاين و مفادها أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية بدلاً من حتمية تماماً كما تقول نظرية ميكانيكا الكمّ وبذلك نموذج أينشتاين العلمي القائل بحتمية قوانين الطبيعة نموذج كاذب. هكذا حكمة أنَّ “الله لا يلعب بالنرد فقط بل يرميه أحياناً حيث لا نراه” تختصر أيضاً هذا الجدل العلمي بين الذين يقبلون نظرية ميكانيكا الكمّ و الذين يرفضونها و تصرّ على قبول نظرية ميكانيكا الكمّ فالله يلعب بالنرد و لذا قوانين الطبيعة احتمالية كما تؤكِّد ميكانيكا الكمّ. كل هذا يرينا صدق الحكمالوجيا التي تعتبر أنَّ الحكمة فن التعبير باختصار عن المعاني والمعارف العلمية. فإن لم تكن الحكمة كذلك لأمسى من المُستغرَب لماذا حكمة أينشتاين و حكمة هوكنغ تعبِّران عن الجدل العلمي السابق فتختصران نموذجيْن علميين متنافسين ألا و هما النموذج الكلاسيكي للكون المُعبِّر عن حتمية قوانين الطبيعة و نموذج ميكانيكا الكمّ المُعبِّر عن أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية.

على ضوء هذه الاعتبارات أيضاً ، الحكمة فن تكثيف المعاني والمعارف في عبارة قصيرة مُختصَرة. فحكمة أينشتاين كثّفت معارف و معاني الجدل العلمي بين تصوير الكون على أنه محكوم بقوانين حتمية و تصويره على أنه محكوم بقوانين احتمالية و أصرّت على محكوميته بقوانين حتمية بدلاً من احتمالية. أما حكمة هوكنغ فكثّفت معارف و معاني الجدل العلمي نفسه و لكنها أكّدت على محكومية الكون بقوانين احتمالية بدلاً من حتمية. من هنا ، الحكمة أيضاً فن تكثيف المعاني و المعارف في عبارة قصيرة. فحين تتكاثف المعاني و المعارف تصبح حكمة كتكاثف المعارف العلمية حيال الجدل العلمي السابق في كل من حكمة أينشتاين و حكمة هوكنغ.

أما حكمة الفيلسوف سقراط “الفضيلة هي المعرفة” فتعبِّر عن فلسفته في الأخلاق والسعادة. حكمة سقراط “الفضيلة هي المعرفة” تتضمن أنَّ المعرفة أصل الفضائل فالأخلاق والسعادة لأننا إذا لم نعرف ما هو الخير فلن نتمكّن من فعله وبذلك لن ننجح في تحقيق هدفنا الإنساني الأساسي ألا و هو تحقيق الخير و بهذا تخسر كل ذات الانسجام مع ذاتها ما يحتِّم خسران السعادة. هكذا هذه الحكمة تعبِّر عن فلسفة متكاملة في الأخلاق و السعادة و تختصر مضامينها الجوهرية ما يؤكِّد على أنَّ الحكمة فن تكثيف المعاني والمعارف كتكثيف المعارف والمعاني الفلسفية. أما حكمة الفيلسوف ريتشارد رورتي “الكون لا يتكلّم” فتعبِّر عن فلسفته البراغماتية التي من مبادئها أنَّ ما هو حقيقي صفة للجُمَل و ليس صفة للواقع فالحقيقة ليست سوى ما نستطيع التعبير عنه لغوياً وبذلك الحقيقة غير مستقلة عن العقل البشري لأنَّ عباراتنا اللغوية معتمدة على عقولنا. من هنا ، الحكمة فن التعبير المُختصَر عن النظريات الفلسفية تماماً كتعبير حكمة رورتي عن فلسفته البراغماتية.

كما تعبِّر الحكمة عن الثقافات المتنوّعة. وبذلك الحكمة فن الدلالة على المعارف والمعاني كما تؤكِّد الحكمالوجيا لأنَّ الثقافات معارف دالة على معان ٍ. مثل ذلك الحكمة القائلة “خير الكلام ما قل و دل” المُعبِّرة عن ثقافة العرب اليقينية ذات السياق العالي التي تعتقد باليقينيات غير القابلة للشك و التي تعتمد في التواصل على المجاز و قِلة الشرح التفصيلي و التسليم بأنَّ الآخر يعرف المعلومات الضرورية لفهم الحديث أو الحوار و إن كان حديثاً أو حواراً مُختصَراً. من هنا ، هذه الحكمة العربية تعبير عن ثقافة العرب و مناهج تواصلهم ما يدلّ على أنَّ الحكمة فن الدلالة على المعارف و المعاني المتمثلة في هذه الثقافة أو تلك. هكذا يرينا هذا المثل أيضاً صدق الفلسفة الحكمالوجية التي تعرِّف الحكمة على أنها فن التعبير باختصار عن المعرفة و المعنى. فنجاح التحليل الحكمالوجي في التعبير عن دلالات الحكمة و معانيها دليل على صدق هذا التحليل و تفوّقه المعرفي.

كل هذه الأمثلة توضح أدواراً معيّنة للحكمة منها دور الحكمة في الحكم على ما هو صادق و ما هو كاذب كحكم حكمة أينشتاين على صدق نظريته العلمية القائلة بحتمية القوانين الطبيعية و كذب ميكانيكا الكمّ و دور الحكمة في توجيه المجتمع و التعبير عنه في آن كدور حكمة العرب السابقة التي تعبِّر عن الثقافة العربية اليقينية ذات السياق العالي. أما الدور الأساسي للحكمة فكامن في التعبير عن المعاني و المعارف العلمية و الفلسفية و الثقافية فالحفاظ عليها من خلال اختصار النماذج الفكرية والفلسفية والعلمية والثقافية بعبارات قصيرة ذات وقع مشاعري يجذب الانتباه والقبول. من هنا ، الحكمة أيضاً آلية بقاء لكونها تحفظ معارف و معاني الفلسفات والعلوم والثقافات فتمكّن أتباعها من الاسترشاد بها فالاستمرار والبقاء والارتقاء على ضوء منافعها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here