الرأي العام وبناء الدولة

الرأي العام وبناء الدولة
الدكتور جابر سعد الشامي
من المسلم به او الذي يعتبر من البديهيات ان الحكومات في الوطن العربي لا يهمها كثيرا (الراي العام) للجماهير ازاء اي قضية حتى ولو كانت مصيرية , فهي اما انظمة شمولية دكتاتورية او انظمة شبه ديمقراطية زائفة او ملكيات تحكم باسم الرب الذي نصب لويس السادس عشر , والشواهد كثيرة ولا نريد ان نسوق اي منها .
ونتيجة لذلك فقد ضاعت اعمار اجيال كاملة وبددت ثروات هائلة واقتطعت مساحات شاسعة وضاعت بلدان واقطار بكاملها .
وعندما اسست جماهيريات واقتطعت لأفراد ملكيات وظهرت الى العلن دويلات وامارات وكان ذلك في ظل غياب مشاركة جماهيرية وعدم وجود قيادات وطنية أمينة وبدفع وتشجيع ودعم كبير من المستعمرين في حقب زمنية بعيدة نسبياً ، فقد انزوى الإبداع وأنحرف الفكر، ووجدت العناصر الانتهازية الفرصة سانحة لها كي تتسلط على مقدرات الجماهير، وتخوض تجارب ومغامرات تضر البلاد والعباد، وتسهم في إفساد الحياة، وتضع المواطن في دائرة التخلف والجهل والضياع.
ويقسم الباحثون الرأي العام إلى قسمين: رأيا عاما عاطفيا ، و رأيا عاما عقلانيا.
والرأي الأول: لا يستند على أسس عقلية ولا على خلفية فكرية ويستمد تحليلاته ومواقفه من جذور عفوية محضة. وهو ما ارادت الحكومات تربية الناس عليه واشاعته بينهم كي يسهل عليها قيادتهم حيثما اراد المتسلطون
أما الرأي ثاني: فهو الرأي الذى يستند في تحليلاته للواقع، ومواقفه من الأحداث تقوم على أسس فكرية وثقافية، وتنبع تحليلاته من واقعه الذى يعيش فيه لا من الخيال الذى يحلم به . ولن يتأتى بناء رأى عام صائب إلا بتهيئة إعلامية صحيحة، وروافد فكرية سليمة تزوده بالحقائق والمعلومات والأحداث التي تدور حوله بصدقٍ وأمانه. فإذا كانت الروافد التي يؤكد عليها الخبراء والباحثون لبناء الرأي العام تعمل بطريقة موضوعية مجردة وخالية من التحيز، فإن الجماعة التي تشكل هذا البناء سوف تعبر عن اتجاهاتها الحقيقية، على أسس معرفية صحيحة، دون خوف، أو توجس، أو نفاق، أو مجاملةٍ .وقد قامت الزمر الحاكمة بمحاربته وتوجيه التهم الى من يتبناه او من يقول به ووصلت التهم الى حد الاتهام بالكفر والانحراف والزندقة والهرطقة .
و الجدير بالذكر أن الرأي العام ليس مجرد آراء مبعثرة، يعكسها كل فرد على حده، بل هو شيء أعم من ذلك، وأن كانت أراء الأفراد هي المقدمة التي تشكل الرأي العام الفعلي، لأن الرأي العام هو نتاج للتفاعل بين الأفراد نتيجة لوجودهم معا في حياة جماعية عملية. ولكي تلغي السلطة الحاكمة التجمع الحيوي والحياة الجماعية التي يفرضها الراي العام المستند الى نهج علمي صحيح ومعطيات عقائدية ثابتة ورؤية واضحة للأحداث , قامت تلك الزمر الحاكمة بأنشاء ما يسمى ب ( الاحزاب ) والتي يتغنى اعلام السلطات بثوريتها وخدمتها للجماهير فهي منها ولها . وبذلك صار الراي العام الى بعثرة وشتات لم ولن يجتمع بعده فما يعد مؤثرا ولا ضاغطاً ولا رقيبا ولا محاسبا على فوضى الحكم وتداعيات التسلط . وقد أدى ذلك إلى تهميش دور الجماهير في بناء الأمة على أسس صحيحة، وإلى عرقلة جهودها، وتضييق مساحة التفاهم بينها وبين صناع القرار .
ويرى المفكر الكبير ميكيافيللي صاحب كتاب( الامير ) أنه لا يمكن لأي حكيم أن يتجاهل الرأي العام في القضايا ذات الطابع الجماهيري، أو فيما يتعلق بتوزيع المناصب الحكومية والأفضليات في بناء الدولة لأن الجماهير الواعية لن ترتكب أي خطأ في ترتيب واختيار الأفضليات، كما أن أخطاءها – إذا ارتكبت – ستكون محدودة بالقياس إلى الأخطاء التي يمكن أن تنجم عن تجاهل رأيها.
ولكي يستفرد بالسلطة ويمارس الحكم كما يهوى البعض فقد سعت الاحزاب والكتل لبناء جمهور وليس رأيا عاما للجماهير وذلك يأتي من ادراكها ان الجمهور يعنى جماعة ما، تدين بوجودها لتقاسم أفرادها تجارب معينة وذكريات وتقاليد محددة وظروف بعينها. بيد أن هذه الجماعة ليست كلا متماثلا، حتى وإن كانت مجتمعا محليا صغيرا جدا، فعندما توضع تحت الملاحظة فإنها تكشف عن كثير من الاختلافات التي تقوم على أساس الفروق الطبقية، والمصلحة الاقتصادية، والمعتقد الديني، والانتماء السياسي والأيديولوجي، وما إلى ذلك، ومن ثم فإن الجمهور ليست لديه مواقف أو صفات خاصة به، ومن الممكن أن يفرض عليه أي نوع من المعتقدات أو التحيزات أو السلوكيات .أو صفات خاصة به. وهذا بالضبط ما فعلته احزاب الحكومات المتعاقبة في العراق منذ تأسيس اول حكومة عراقية في تاريخ العراق الحديث بقرار بريطاني وبتوجيه مباشر من الادارة البريطانية المحتلة في الخامس والعشرين من تشرين الاول عام 1920 وانتهاءً الى حكومات واحزاب ما بعد 2003 والتي بدئها الامريكي سيء الصيت ( بول بريمر) وصولاً الى ما نحن عليه الان …. والى متى … الله اعلم .

الدكتور جابر سعد الشامي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here