السياسة والحروب تطرق مضاجع الثقافة من ابوابها الواسعة

السياسة والحروب تطرق مضاجع الثقافة من ابوابها الواسعة.

عصام الياسري

في عام 2008 ، نشرت “ريبيكا سولنيت” مجموعة مقالات، “الرجال يشرحون الاشياء لي” وصفت فيها ما أصبح يُعرف فيما بعد بـ “التدبير البشري”. على الرغم من أن “سولنيت” لم تستخدم هذا المصطلح، إلا أنها تصف حكاية تجسد جوهر الظاهرة: مصطلح أوروبا الشرقية في الفضاء العام في منتصف القرن الثامن عشر، عندما حل “الشرق” و”الغرب” محل التقسيم السابق للشمال والجنوب على الخريطة الذهنية لأوروبا..عندما أرادت التحدث عن كتابها، قاطعها رجل بكلمات سمعها عن كتاب تم نشره مؤخرا حول هذا الموضوع، الذي تتحدث عنه سولنيت. » لم يخطر بباله أبدا أنه كان يتعامل مع مؤلف هذا الكتاب المهم «.. يتخذ العديد من مثقفي أوروبا الغربية موقفا مماثلا عندما يتحدثون عن وسط شرق أوروبا وعلاقتها الصعبة والعنيفة مع روسيا. اليوم الموقف الذي يوصف غالبا بـ “الأبوي المتعالي” للمثقفين والمفكرين في الغرب، يعني المفهوم بأوسع معانيه، تجاه آراء وأفكار الأوروبيين الغربيين من أوروبا الشرقية ومعتقداتها.

نشرت العديد من صحف اوروبا الغربية مؤخرا مقالات تناولت كلام الكاتب البولندي المعروف شتشيبان تواردوخ Szczepan Twardoch مخاطبا المثقفين الاوروبيين في صحيفة “نويه تسورخر تسايتونج ـ نيوزيلاندا” Neue Zürcher Zeitung – Neuseeland ، بطريقة مستهجنة غير متوقعة، تحت عنوان “أعزائي مثقفي أوروبا الغربية: اصمتوا من فضلكم على روسيا”. اثارت ردود فعل متباينة بين الاوساط الثقافية الاوروبية.

يبدو ان شكوى الكاتب البولندي شتشيبان تواردوخ من غطرسة المثقفين الغربيين، كانت وليدة فورة من الغضب الأدبي الدقيق بخلفية تاريخية متراكمة ـ تضمنت: ((بالنسبة لهم، اي للمثقفين الاوروبيين، تعتبر أوروبا الشرقية قبل كل شيء منطقة عبثية ذات هوية مشكوك فيها، ولا تنطبق عليها القوانين والمبادئ المعتادة للعالم المتحضر، وهي منطقة ملعونة تبدو فيها المعاناة والعنف أمرا طبيعيا. أوروبا الشرقية، على الأقل من وجهة نظر بعض المثقفين، ليست قادرة على تحديد مصيرها – فهي تظل موضوعا تتلاعب به القوى العظمى)).

يعود سبب ردود الفعل المريرة لتواردوخ إلى تصريحات حول حرب أوكرانيا، حيث ألقى فلاسفة أمريكا الشمالية البارزون نعومي كلاين ونعوم تشومسكي باللوم على ضغط الناتو على روسيا في الهجوم على أوكرانيا.

وبناءً على ذلك كما يقول: عندما تدمر روسيا ماريوبول، تقصف المستشفيات والمسارح والأهداف المدنية الأخرى، فإنها لا تهتم بأمنها. تواردوخ يخاطب المفكرين البارزين “لا يهم الخوف على الناس المختبئين في أقبية ماريوبول”. و ” في نظر المثقفين المذكورين ليس ثمة خوف على شخص، اذ لابد له أن يقرر مصيره بنفسه”. ينتهي مقال تواردوخ، الذي يضم قائمة اسماء من تم التطرق إليهم، أيضا زملاء من أوروبا الغربية، باليأس بجملة: “أعزائي مثقفي أوروبا الغربية: ليس لديكم أي فكرة عن روسيا. لم تلمسك روسيا أبدا .. وبما أنك لا تفهم شيئا، فقد حان الوقت لتنتهي في الحديث عن القضايا الروسية وأوروبا الشرقية. نقطة. راس سطر”.

هل هو الغضب المقدس الذي يجب التعامل معه برأفة، خاصة عندما يستحوذ شتشيبان تواردوخ على الصياغة غير المقبولة القائلة بأن الكذب جزء من الطبيعة الروسية؟ أم أنه وصل إلى نقطة مؤلمة عندما تناول عدم الاهتمام الواضح لمفكري أوروبا الغربية بالظروف السائدة في بولندا، ودول البلطيق، وبيلاروسيا، أو حتى في أوكرانيا، التي هي مسؤولة جزئيا عن حقيقة الاستعدادات للحرب، والتي كانت بأي حال من الأحوال تبقى سرا، وتم التغاضي عنها بجد؟.

في خطاب كهذا يلامس المسألة ثقافيا وبشكل دراماتيكي، كان من الممكن محاولة مواجهة الامر بوسائل إحصائية. لقد التزم الناشرون الألمان على وجه الخصوص بجذب القراء الألمان لأعمال من الأدب البولندي والأوكراني والجورجي والروسي والروماني لسنوات عديدة. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة على احصائيات ما بعد بدء الحرب فانها مثيرة للقلق. فمن بين آلاف العناوين التي تم ترجمتها ونشرها من لغات أجنبية في عام 2020 ، كان عشرات من الروسية والبولندية والأوكرانية والجورجية والمجرية والرومانية في القائمة، فيما التزم الناشرون أيضا بتقديم البلدان المجاورة في أوروبا الشرقية كجزء من التركيز على النقاط المحورية لتلك البلدان.

ربما يرفض شتشيبان تواردوخ حجم الترجمات باعتبارها محاولة فاترة للمصالحة. قبل وقت قصير من بدء الحرب، كشفت وزيرة الخارجية الالمانية “حزب الخضر” أنالينا بربوك Annalena Baerbock عن حجم العجز، خاصة في المعرفة التاريخية حول تاريخ أوروبا الشرقية، عندما رفضت تسليم الأسلحة خلال زيارتها إلى كييف، مستشهدة بالمسؤولية التي تنبع من التاريخ الألماني.

ومع ذلك، وبسبب تاريخ العنف الذي تسبب فيه الألمان على وجه التحديد، كان من الممكن تبرير عمليات تسليم الأسلحة صراحة. في تعامله مع حرب الإبادة الألمانية. كان الاتحاد السوفييتي للأسف غالبا ما يشبه روسيا اليوم، كما يقول المؤرخ ميخائيل ويلدت Michael Wildt، ولم يُلاحظ أن الجرائم الجماعية للاشتراكية القومية “النازية الالمانية” قد ارتكبت بشكل أساسي في أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا. يلخص ويلدت بالقول – هناك كانت أيضا جرائم جماعية ستالينية قد حدثت في ألمانيا ـ و “ما زلنا نعرف القليل جدا عن تاريخ العنف في أوروبا الشرقية”.. اذن للضرورة فيما يتعلق الامر بالسلم والامن الدولي أحكام، يجب على المشاركين في المناقشات الحالية أيضا الخضوع بشكل عاجل لمتابعة تاريخية واستبدال الاتهام النمطي الآن، بأخرى نزيهة تحل محل الفحص الذاتي. إلى جانب دور السياسيين الأفراد المطلوب، نظرا إلى الانقسام المذهل الذي حصل بين الشرق والغرب.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here