عبادة النيران في الزرادشتية… القسم الاول

عبادة النيران في الزرادشتية
القسم الاول

أ.د. فرست مرعي

إن من احدى المسائل الهامة والتي ينبغي الالتفات اليها بشأن النظام الفكري والعقائدي والعملي للزرادشتية عند ظهور الإسلام، هي مسألة تعظيمهم للنار وتقديسهم وعبادتهم لها، ولهذا العمل عندهم سوابق زمنية منذ أقدم العصور التاريخية وهي باقية حتى اليوم، يقول الشيخ الرئيس أبوعلي الحسين بن على بن سينا الفيلسوف (المتوفى سنة 427هـ/1037م) في الفصل السابع من الفن الثاني من فنون الشفاء:”… وطبقات من القدماء الماثلين إلى القول بالأضداد وبأن الضدين مبدئان للكل، والواقفين في ذلك إلى جنبة القول بالخير والشر والنور والظلمة.. أفرطوا في تمجيد النار وتعظيم شأنها وأهلوها للتقديس والتسبيح، وكل ذلك لنورها واضاءتها، ورأوا أن الأرض مظلمة لا يستضيئ باطنها بالفعل ولا بالقوة فأهلوها للتحقير والذم”. مرتضى مطهري، الإسلام وإيران عطاء وإسهام، ص184 – 185، نقلاً عن الفيلسوف ابن سينا، الشفاء – قسم الطبيعيات، ص177.
ونحن إذا اعتمدنا على قول هذا الفيلسوف رأينا: أن عبادة النيران انما نشأت من فكرة الثنوية في الوجود وفلسفة الخير والشر والنور والظلمة… أما اذا قبلنا ما يدعيه الباحثون المتأخرون قلنا: ان سوابق عبادة النيران ترجع إلى ادوار عبادة مظاهر الطبيعة، وكان الانسان إذ ذاك يعبد كل شيء مفید کی يفيده اکثر ويعبد كل شيء مضر کی يأمن من شره، و كان المعنى: أن الإنسان قبل أن يلتفت إلى مسألة الخير والشر بشكلها الفلسفي، أي قبل أن يری کل شيء مزيجا من عنصري الخير والشر والنور والظلام، قبل هذا كله كان يعبد النيران، و ان الانسان في تلك العهود انما كان يقسم جميع الاشياء إلى قسمين هامين: أحدهما حسن جميل، والآخر: شر مضر، ويجعل لكل قسم من هذين ربأ خاصا خيرا أوشراً! أما أن يرى ان کل موجود مركب من عنصرين مزيجين ضدين، فإنما هذا من افكار عهود التكامل الفكري للإنسان القديم… وعلى أي حال؛ فمن المسلم به أن لعبادة النيران سوابق قديمة لدى الايرانيين، وأنها كانت مثار اعجابهم أكثر من أي عنصر آخر…”.
يقول الباحث الايراني الدكتور محمد معين (1914 – 1971م)”… ومع قطع النظر عن الاوستا ولاسيما قسم (الكاتها) الذي اختلف في تاريخه من ۷۰۰ الی ۱۱۰۰ق.م … فقد بقي من الآثار الايرانية القديمة نقش قديم من من العهد الميدي في منطقة اسحاق آوند جنوب بهستان (بیستون) يدعي اليوم (دکان داود) وهو موقع صخور أخميني متأخر يقع بالقرب من سربيل زهاب في مقاطعة كرمانشاه بإيران، تم اكتشاف الموقع بواسطة المستشرق البريطاني هنري راولينسون(1810 – 1895م) في عام 1836م، يتكون من قبر صخري محفور بارتفاع عدة أمتار في وجه صخري يعلو على راحة تسمى كيل إي داوود، يرجع تاريخه الى ۸۰۰ ق.م، وهو عبارة عن قبر محفور في الجبل وعليه صورة رجل واقف امام النار بخشوع”. محمد معين، مزديسنا وأدب بارسى، ص278.
ويقول المستشرق الفرنسي رومى گریشمن (1895 – 1979م) بهذا الصدد:” نحن نعرف ثلاثة قبور من عهد الهخامنشيين، أحدها في پاسارگاد قد حفر بأمر كورش، والثاني جزء من نقش رستم في كتيبة مقبرة داريوش، يحتمل أن يكون هو الذي أمر بحفره وصنعه. والثالث في شوش، ويظهر منه أنه من عهد أردشير الثاني…”. محمد معين، مزديسنا وأدب بارسى، ص278.
والذي ينبغي النظر فيه هو أن نرى كيف كان موقف زرادشت من هذا العمل؟ فهل انه كان قد نهى عنه ولكنه عاد بعده مرة اخرى حتى أصبح العمل رکنا ًمن دینه؟ أو انه لم يكن يخالف الناس في تقديسهم وتعظيمهم للنار على ما كانوا عليه من ذلك؟
نحن إن جعلنا الافستا والروايات الزرادشتية مستنداً للإجابة على التساؤل المطروح، كان الجواب، أن زرادشت نفسه كان يوافقهم على هذا العمل. مرتضى مطهري، الاسلام وإيران، المرجع السابق، ص158 – 168.
ومن جانب آخر يقول الدكتور محمد معين: “وان اسم (آذر) انما هو اسم لأحد أرباب باب مزدیسنا، وهو رب النوع للنار أو الملاك الخاص الموكل بها: (آذر ایزد = ایزدان) ويدعى في الافستا أنه: أبن آهورامزدا (= كما قالت النصارى:المسيح ابن الله!)”. مطهري، المرجع السابق؛ و لذلك قال القس المسيحي (هاشو) الذي أطفأ النار المقدسة في أحد معابد النار بحالة من الغضب وقال:” إنه ليس بيتاً من بيوت الله، وليست النار بنتاً لله . ولكنها بنت تستخدمها الملوك والسفلة، الفقراء والصعاليك”. ارثر كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص135. وانما ارادوا بهذا التعبير عن عظمة النارعندهم، کما دعو (اسپندارمد) أو الملاك الموكل بالأرض: ابنة آهورامزدا (= كما قالت العرب: الملائكة بنات الله!) نظراً إلى كثرة منافع الأرض وطيباتها وقد جاء في البند السابع من كتاب يسنا ۲۵ أحد أجزاء الافستا: ” نُبَجِجِلُك أيتها النار، يا إبن آهورامزدا سيد نظام الطقوس المقدس، نُبَجِل كل النيران، وجبل أوشي – دارينا المقدس الذي خلقه مازدا، ويازاد المتألق بالقداسة”. ياسنا، 25، الفقرة 7، ضمن كتاب الآفستا، اعداد خليل عبد الرحمن، دمشق، مطبعة دار الحياة، 2007م، ص106.
غير أن الترجمة الصحيحة للنص الافستي جاءت عند الدكتور محمد معيني بالشكل التالي:” أن تعبد آذر ابن أهورا مزدا، ونثني علیك یا آذر المقدس وابن آهورامزدا وسید الحق والصدق، ونعبد جميع أنواع النار…” . مزديسنا وأدب بارسى، ص276.
ولا نستطيع أن تحصل على قرائن تاريخية تفيد أن زرادشت کان مخالفاً لتعظيم وتقديس النار.. بل نجد، في (الكاتا – الكاثا) الذي هو القسم الأكثر اعتبار من الافستا الساسانية من حيث النسبة الى زرادشت كلاما عن رفع الحاجة إلى آلهة النار… بل ويدعي البعض: أن عقيدة نفس زرادشت تختلف مع نراه ونجده عنه في قسمي : اليسنا واليشتها من الآفستا.
يقول المستشرق والدبلوماسي البريطاني جان ناس(1869- 1980م) بهذا الخصوص:” ولم يبق من الأعمال والعبادات والآداب التشريفات الدينية الزرادشتية الأصيلة شيء يذكر، وانما يعلم أن زرادشت قد نسخ مناسك ومراسم الايرانيين القدماء المبنية على العقيدة بالسحر وعبادة الأوثان، والتي كانت هي قبل نسخ زرادشت في طريقها الى الزوال، وإنما بقي من مذهب زرادشت مرسوم عبادة واحد فقط، وهو كما قيل أن زرادشت قتل وهو واقف في محراب عبادته للنار المقدسة!، وقد جاء في أحد أناشيد(الكاتا) أن زرادشت کان یقول: “إني حين أرفع يد الضراعة الى النار المقدسة أراني براً صحيح العمل”. وقد عدت النار في موضع آخر من عطايا (يزدان) التي وهبها(آهورامزدا) للإنسان تكريماً له وتعظيماً! وليعلم أن زرادشت نفسه لم يكن يعبد النيران، بل كان يعتقد فيها ما كان يعتقد به آباؤوه في شأن هذا العنصر المقدس، وهو يختلف في عقيدته بشأنها مع ما يعتقده فيها عباد النار المتأخرون عنه، وإنما كان يرى أن النار رمز مقدس وشارة ثمينة من آهورامزدا يستطيع الإنسان أن يتوصل بها الى ماهية الحقيقة العلوية للرّب العليم”.
وسواءً أن كان زرادشت يقدس النار أولا يقدسها، وعلى فرض تقديسه لها فعلی أی صورة كان يفعل…؟ ، ومما هو معلوم أن تعظيم النار وتقديسها وتكريمها وعبادتها شاع بعد زرادشت بين أتباعه بحيث أصبح أکبر شعار الزرادشتية وهو بعد باق إلى اليوم، فبيوت النيران تبني بين المجوس کما تبنى الكنائس للمسيحيين، والكنيسات لليهود والمساجد بين المسلمين. وعرفت الزرادشتية في عهد الساسانيين باسم عبدة النار(وكان المسيحيون الذين وجدوا لأأقدامهم مواضع في بلاط الساسانيين – يجادلون مع هؤلاء بشأن عبادتهم للنار). وكتب کریستنسن يقول: اوجب تقدم دين المسيح في أراضي الأرمن اضطراباً للدولة الإيرانية، فشاور مهر نرسی ملك ایران مع علماء الزرادشتية، ثم كتب مرسوماً ملكيا دعا فيه النصارى في ایران إلى ترك دین عیسی وقبول دین زرادشت، وطلب فيه منهم أن يكتبوا له أصول دينهم. فكتبوا اليه كتاباً تجاسروا فيه عليه وذكروا فيه يقولون: “… فاعلم علم اليقين أننا لن نعبد أبداً ما تعبدون، لن نعبد العناصر والشمس والقمر والهواء والنار، ولن نعبد هذه الالهة كلها التي تسمونها في الارض والسماء. ولكنا، كما تعلمنا، نعبد إلهاً واحداً حقاً هو خالق السماء والارض وما فيها…”. ايران في عهد الساسانيين، ص 272.
وكتب المستشرق الدانماركي في الفصل الثامن من كتابه يقول:”… ان رجال دین زرادشت كانوا يتقهقرون كل يوم قدم إلى الوراء، ولم يبق لهم ما کانوا يتمتعون به من القدرة في البلاط و الدولة حتى يستطيعوا أن يصدوا ما يحدث بضدهم من حوادث دينية مضادة، ولهذا فقد تخفف ما كانوا يحملوه على الناس من ظلم و تجاوز باسم الدين… و تقدمت الحكمة و الفلسفة في الأوساط العلمية على احكام الدین، و كلما توسع أفق الفكر لديهم كانت الشكوك و الوساوس تتسع في أذهانهم شيئا فشيئا… و اخذت السذاجة و البساطة للاساطير القديمة الي كانت في بعض اجزاء مزدیسنا تقلق حتى علماء الدين و تؤديهم، ولهذا فقد اخذوا يصنعون لها تأويلات استدلالية لتوجيه الحكايات القصصية وحاولوا أن يوجهوها بالطرق العقلية… يقول أحد (المغان) في حواره مع جيورجيس (گیورگیس) المسيحي: “نحن لا ترى النار إلهاً من دون الله، بل ما تعبدها إلا لكی نعبد الله، كما تعبدونه انتم بواسطة الصليب”. فأجابه جيورجيس ( گیورگیس) المسيحي الذي كان هو أحد رجال دين زرادشت وقد ارتد إلى المسيحية بتلاوة بعض العبارات من الافستا اثنى فيها على النار ما یثنی على الله، فقلق ذلک (المغ) وحاول الاجابة فقال: “نحن انما نعبد النار لانها و آهورامزدا من عنصر واحد”، فسأله جيورجيس:” أفي في النار كل ما في آهورامزدا، أجابه المغ: نعم! فقال جيورجيس: أن النار تحرق الانجاس و الأرجاس و الأرواث و كل ما تجده، فهل أن اهورامزدا أيضا يحرق هذه الاشياء؟! فلما بلغ الكلام إلى هنا عجز المغ عن جوابه فسکت “.ارثر كريستنسن، ايران في عهد الساسانيين، ص418 – 419.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here