إلى أي مدى ستمضي الصين في مساندة روسيا؟

حميد الكفائي

قد تبدو الصين الرابح الوحيد من الحرب الروسية الأوكرانية، فقد عززت علاقاتها بروسيا، وأصبحت النافذة الرسمية الوحيدة لها على العالم، والمستقبِلة لصادراتها الرخيصة من الطاقة والأسلحة.

ولكن إلى أي مدى تستطيع الصين أن تساند دولة تحتل دولة مستقلة ذات سيادة، أو أجزاءً منها؟ وهل تخدم هذه السياسة توجهاتها البعيدة الأمد في مبادرة الحزام والطريق، ومساعيها لبناء شراكات مع الدول النامية؟

هل هناك رابحون آخرون من هذه الحرب التي تدخل الآن شهرها الرابع؟ الهند ربما، فهي استفادت أيضاً من الحرب، وعقدت صفقات مع روسيا لاستيراد الطاقة بأسعار مخفضة. الدول المنتجة للغاز والنفط في كل أنحاء العالم استفادت أيضاً من ارتفاع أسعار النفط والغاز وزيادة الطلب عليهما.

رغم ذلك، هناك شعور بالقلق مما ستؤول إليه هذه الحرب، التي لا أحد يستطيع أن يتنبأ باحتمالات استمرارها. نعم هناك رابحون، ولكن من هم الخاسرون؟ لا شك بأن الخاسر الأول هو الشعب الأوكراني، فهو الذي يتلقى الصواريخ والقنابل الروسية، وهو الذي يُقتل ويتشرد ويهاجر. ولكنْ، هناك خاسرون آخرون.

المعسكر الغربي عموماً تكبد، ويتكبد كل يوم، خسائر كبرى، ويتعرض لأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لهذه الحرب. أولاً، بسبب فرضه عقوباتٍ قاسيةً على روسيا، حَرَمَته (أو ستحرمه) من صادراتها من الطاقة الرخيصة، وساهمت في رفع معدل التضخم، الذي يربك الإنتاج والأسواق ويخفض قيمة المدَّخرات، وثانياً عبر تقديمه مساعداتٍ ماليةً وعسكريةً هائلة لأوكرانيا، واستقبالِه ملايين اللاجئين منها، وثالثاً عبر زيادة إنفاقه على التسلح، ونشرِ قوات حلف الناتو في العديد من الدول الأعضاء، ورفع درجةِ التأهُبِ فيها إلى القصوى.

أما روسيا فقد تكبدت خسائر فادحة، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً واستراتيجياً، بشنها الحرب على جارتها وحليفتها السابقة، بدعاوى غير مقنعة بأنها تهدد أمنها القومي، وهي التي نزعت سلاحها النووي في اتفاقية بودابست لعام 1994، امتثالاً لرغبة الدول الخمس الكبرى، وبينها روسيا، مقابل ضمان أمنها وسيادتها.

وبالإضافة إلى الخسائر البشرية العالية في صفوف الجيش الروسي، والخسائر في المعدات والأسلحة، فإنها خسرت نفاذها السهل السابق إلى أوروبا وتفاعلها الاقتصادي المثمر، وعلاقاتها البعيدة الأمد معها، إذ خسرت ثقة دول أوروبا الشرقية، الحليفة السابقة لها، التي اصطفت بقوة مع المعسكر الغربي، وأصبح معظمها أعضاء في حلف الناتو، بينما ينتظر البعض الآخر قبول الحلف بعضويته فيه.

كما خسرت أيضاً ثقة أوروبا الغربية، التي تعززت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وتبنّي روسيا النظام الديموقراطي، وانضمامها إلى مجموعة الدول الصناعية السبع، التي أصبحت بها ثماني، حتى إقصائها من المجموعة عام 2014 إثر احتلالها شبه جزيرة القرم الأوكرانية.

ولكن إلى أي مدى يمكن الصين أن تمضي في علاقتها الجديدة مع روسيا، التي وُصِفَت أثناء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبكين، قُبَيْل شن الحرب على أوكرانيا بأيام، بأنها “علاقةٌ لا تعرِف حدوداً”؟

يرى خبراء أن الصين سوف تنظر إلى مستقبلها كقوة عظمى في العالم، وأنه من غير اللائق بها أن تصطف مع دولة غازية، وخصوصاً أنها كانت منافسة شديدة لها، ولديها مشكلات معقدة معها سابقاً، وأن هذه المشكلات لا تزال محتملة الوقوع، وخصوصاً إذا ما تمكنت روسيا فعلاً من تحقيق أحلامها بأن تصير مرة أخرى دولة عظمى تحسِب لها الدول الأخرى حساباً، وإن كان هذا الاحتمال مستبعداً، على الأقل حالياً.

ويرى آخرون أن الصين سوف تستثمر هذه الحرب لمصلحتها، بحيث إنها (الحرب) سوف تستنزف روسيا وتضعفها إلى أبعد الحدود بحيث تجعلها معتمدة كلياً على الصين، وفي الوقت نفسه فإنها سوف تستدرج الولايات المتحدة وحلفاءها إلى حرب طويلة الأمد من شأنها أن تضعفهم جميعاً، وبذلك تحقِّق حلمَها بأن يكون نموذجها الاقتصادي، وحتى السياسي، بديلاً للنظام الرأسمالي اللّيبرالي الغربي.

يتفق محللون وخبراء كثيرون على أن الصينيين أبعد ما يكونون عن ارتكاب مجازفة عسكرية، كاستعادة تايوان مثلاً، وهذا هو ديدن الصين في العصر الحديث، وحتى مشاركاتها في الحروب كانت اضطرارية، وليست بهدف التوسع الجغرافي أو الهيمنة السياسية عبر القوة العسكرية.

في فترة الخمسينات والستينات كانت الصين تعتبِر الولايات المتحدة الخصم الرئيسي لها، باعتبارها تعادي الشيوعية، وتناهض الثورة الصينية، وخصوصاً أنها متحالفة مع الصين الوطنية (تايوان) وكوريا الجنوبية واليابان، ومن هنا جاء تأييدها للزعيم الفيتنامي هو شي منه، إذ اعتبرت فيتنام حينها جزءاً من أمنها القومي.

لكنها غيّرت وجهة علاقاتها أواخر الستينات، واعتبرت الاتحاد السوفياتي خصماً لها وخطراً على أمنها القومي، وخصوصاً بعد الصراع الذي اندلع بين البلدين حول الحدود عام 1969، إذ اعتبر الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، السوفيات خطراً على الأمن القومي الصيني، لذلك شرعت الصين بتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، التي تُوّجت بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نكسون لها عام 1972.

وحتى عندما شعرت الصين بالحاجة إلى “تأديب” فيتنام في عام 1978، إثر انقضاضها على حكم الخمير الحمر في كمبوديا، المتحالفين مع الصين، فإنها غزتها عسكرياً لفترة قصيرة جداً، ثم انسحبت سريعاً بعد إنجاز تلك المَهَمَّة، التي ادعت فيتنام أنها انتصرت فيها، بسبب انسحاب الصين السريع. وبعد تقارب الصين مع الولايات المتحدة، دفعت حلفاءها في شمالي فيتنام إلى التوصل إلى تسوية سلمية مع الجنوب.

لم تتحالف الصين وروسيا إبان الحرب الباردة، رغم التحديات الكبيرة والخطيرة التي واجهتاها من المعسكر الغربي المعادي للشيوعية في كلا البلدين، فالشرخ بينهما كان من العمق بحيث لم يتمكنا من رأبه، على الرغم من التقارب الأيديولوجي المفترض بينهما، فكلاهما كان يعتنق الشيوعية.

وفي ضوء هذا السجل التأريخي من الخلافات وغياب الثقة، ليس منطقياً أن تتفق هاتان الدولتان الآن، وقد افترقت بهما السبل، واختلف نظاماهما السياسيان، وتفاوتت قدراتهما الاقتصادية والعسكرية، واختلفت توجهاتهما الدولية، وانفرط العقد الشيوعي الذي كان يربطهما بعضهما ببعض نظرياً، على خطة استراتيجية طويلة الأمد، لأن توجهاتهما السياسية والاقتصادية مختلفة، بل متناقضة في بعض الأحيان، وأن التحالف الحالي، إن صحت التسمية، سيبقى موَقتاً ومتعلقاً بالمصالح الوقتية.

روسيا لا تزال تعاني من فقدان هويتها كدولة عظمى، واضمحلال قوتها السابقة، كونها كانت القوة العظمى الثانية في العالم إبان الاتحاد السوفياتي السابق، وهي الآن تتبنى مناهضة المعسكر الغربي لأجل المناهضة فحسب، كي تشعر بأنها لا تزال قادرة على إرباك هيمنته عبر ما تبقى لديها من أدوات القوة، وهي تحديداً، سلاحها النووي وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وثرواتها الطبيعية.

أما الصين فتحاول التوسع اقتصادياً لتحسين المستوى المعاشي لشعبها، الذي يقترب من مليار ونصف مليار إنسان، والتنافس مع المعسكر الغربي اقتصادياً وسياسياً عبر تقديم بديلٍ مختلف لنظامه الاقتصادي والسياسي الديموقراطي الليبرالي. وهذا التنافس مشروع، بإقرار الغرب، وهو سِلْمي، ونجاحه يعتمد على مبدأ “البقاء للأصلح والنجاح للأنفع”.

مع ذلك، لا يمكن أن نتوقع أن الصين ستفوِّت فرصة ثمينة ومجانية، قدمها لها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على طبق من ذهب، لمعاقبة خصومها الغربيين وإضعافهم، خصوصاً الولايات المتحدة، وهذه الفرصة هي قيام روسيا بتحدي قوةِ الولايات المتحدة ونفوذِها مع حلفائها في أوروبا، وإضعافِ دولةٍ ديموقراطيةٍ فتية هي أوكرانيا، وثنيها عن التقارب مع الغرب، وتعزيزِ سطوة روسيا على دول مجاورة تسعى هي الأخرى للتقارب مع الغرب الديموقراطي، مثل جورجيا وأرمينيا وكازاخستان، وحتى بيلاروسيا، لكنها لا تزال تخشى ردة الفعل الروسية.

من الخطأ اعتبار الصين محايدة في هذا الصراع، كما يدّعي المسؤولون الصينيون، ويحاولون أن يقنعوا العالم بذلك بسبب الإحراج الذي وقعوا فيه نتيجة لهذا الموقف، والسبب لأن هناك مصلحةً للصين، وإن كانت قصيرة الأمد، في ما تقوم به روسيا ضد المعسكر الغربي من زعزعة الاستقرار وإضعاف الاقتصاد وإشاعة القلق. لم تستجِب الصين لمناشدات العديد من الدول الأوروبية والآسيوية للضغط على روسيا بإيقاف الحرب التي تتسبب يومياً بقتل المدنيين الأوكرانيين وتهجيرهم من ديارهم، بل اكتفت بإطلاق دعوات التهدئة للطرفين، وهذا غير كاف في نظر الدول الغربية، التي ترى أن الموقف الصيني عزز من قدرات روسيا ودفعها إلى الإصرار على مواصلة الحرب وتوهّمها بإمكانية تحقيق النصر.

ولكنها، إنْ ذهبت بعيداً في هذا الموقف، المحايد رسمياً، والمساند فعلياً لروسيا، فإن الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة تحديداً، سوف تفهم هذا الموقف على أنه موقفٌ عدائي، ومساندةٌ لدولةٍ تنتهك القانون الدولي وتعتدي على دول مستقلة، وهذا بالتأكيد سوف يضر بعلاقاتها البعيدة الأمد مع المعسكر الغربي، الذي تسعى بقوة للتعامل معه تجارياً، كما يُضعِف الثقة بها وبالتزاماتها الدولية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

كما أنها ستستعدي حلف الناتو، الذي صار قوة ضاربة أكثر من أي وقت مضى، إذ تضاعف إنفاقه على التسلح، كما انتشرت قواته في معظم دول أوروبا الشرقية التي كانت متحالفة مع روسيا. وحتى الدول المسالمة مثل السويد وفنلندا، اللتين كانتا محايدتين ومترددتين في الانضمام إلى حلف الناتو، قد تقدمتا الآن بطلب الانضمام إلى الحلف، وبحماسة غير معهودة، بسبب الشعور بأنهما صارتا مهددتين في عالم لم يعد مأموناً.

ولم يعد هناك أمام انضمامهما سوى المعارضة التركية، إذ تتطلب العضوية في حلف الناتو موافقة جميع الأعضاء، وقد تضطر السويد لأن تقدم تطمينات لتركيا بخصوص القضايا الخلافية بينهما كي تسحب اعتراضها، ولا شك أن تركيا تبحث عن مكاسب سياسية مقابل موافقتها على انضمام السويد وفنلندا.

وكانت تركيا قد اعترضت على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، بسبب احتضان السويد للعديد من الأكراد المناهضين للسياسة التركية، والداعمين لحزب العمال الكردستاني المحظور. وبسبب ذلك، تتهم تركيا السويد برعاية الإرهاب، بينما تنفي الأخيرة ذلك، لكنها أظهرت اهتماماً متزايداً في السنوات الأخيرة بحقوق الإنسان في تركيا، واحتضنت آلاف المعارضين الأكراد. هناك من يرى أن لتركيا دوافعَ أخرى، منها ربما مغازلةُ روسيا، ومنها محاولة الرئيس التركي أردوغان الاستفادة سياسياً من هذه المعارضة، خصوصاً مع تدني شعبيته واقتراب موعد الانتخابات، وهذا ما يعتقده مارك بيريني، الباحث في مركز “كارنيغي” في أوروبا.

من الواضح أن الدول الغربية، بما تمتلك من إمكانات اقتصادية وعسكرية، واستعداد لا يلين في الدفاع عن قيمها الديموقراطية ونظامها الرأسمالي، قادرة على التفوق على روسيا، على الأمد البعيد على الأقل، وهذا ما تعرفه الصين جيداً. لذلك فإن من غير المتوقع أن تجازف الصين بمستقبل علاقاتها مع الغرب، وبسمعتها الدولية، من أجل مساندة خصمها السابق وغير المضمون، في مغامراته العسكرية. لكنها الآن متريثة، من أجل أن تحقق مكاسب اقتصادية وسياسية، وأن تنتزع المزيد من المكاسب من الولايات المتحدة وحلفائها.

*إعلامي وكاتب عراقي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here