يوم آخر  في حفر الباطن  الجزء الثالث

فرات المحسن 

أصرّ صاحبي محمد الذي لجأت إليه و قاسمته غرفته الصغيرة، وهي عبارة عن مخزن صغير ملحق بفرن الصمون الذي يعمل فيه، أصرّ على أن نتخم روحينا تلك الليلة بالعرق الزحلاوي ، ففعلنا ذلك على أتم وجه. التهب رأسي بضجيج متوهج، وشعرت أني أكثر صلابة وجلداً مما كنت عليه حين تركت البيت. ولكن كان هناك شيء هلامي بدأ يرتج في رأسي مع صوت محمد وهو يترنم بأداء أغنيته بكلماتها المحورة، وهو ما اعتاد فعله مع جميع الأغاني الرائجة ليمسخها إلى صور هازلة، ثم أردفها بأخريات، متلذذاً برشفات من كأسه، مطلقاً لسانه السليط للهزء بكل المسميات التي يقودها حظها العاثر لمقاربة ذاكرته تلك الساعة. شعرت براحة تامة وأنا أشارك محمداً سخريته مما حوله، وإصراره الدائم على تحوير الحقائق، أية حقائق، حتى وإن كانت أغنية. أن تتشظى الأحداث ويخرق الزمن بلامبالاة، وباستهزاء وإذلال تامين. أن يتخلص المرء بسخرية فاضحة من كل الهموم والأوجاع. أن يغتصبها بإصرار ووقاحة وعلناً بأعلى صوته، كان ذلك كل ما كنت أحتاجه تلك الليلة. 

كنت أنظر إلى محمد دائماً نظرة إعجاب، وأعتقد أنه رجل سحري أخاذ. قدم إلى بغداد دون تأريخ، دون أهل، دون زمن أو متعلقات، سوى دفتر خدمة عسكرية متهرئ، يحتفظ به داخل كيس نايلون كالح اللون، يظهره لمن يريد دون أن يبدي أدنى تذمر. لا يُعرف عنه سوى كونه قدم من إحدى قرى مدينة البصرة، بوجه شديد السمرة ورغبة جامحة بالعمل والجنس واحتساء الخمر، وقلب طيب وأليف، يكتشفه الناس دون عوائق أو عناء. وبشكل ناجز كان قد قرر كتمان سره حتى الموت. فلم يحدّث أحداً عن ماضيه، وكان مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل إبقاء ذلك من خصوصياته غير المباحة، وما عداها وحسب قوله هي سبيل مباح لوجه الله تعالى، ولمن يريد. كان دائماً يناضل دون هوادة ليتحرر من أية ارتباطات، ولا يخشى أن يكون أكثر جيران السوق والقريبين من فرن الصمون، مطلعين على تفاصيل أيامه، حتى وإن كان الأمر يتعلق بممارساته الماجنة. والظاهر أنه لم يرغب أن يحقق  في حياته بعد اشتغاله في فرن الصمون سوى عيشه اليومي، رغم أنها كانت تبدو على درجة ما من السوء. ولكن يبدو أنه كان يمتلك قناعة طاغية بالاكتفاء اليومي.  

 

تأبط محمد صفيحة السمن الصغيرة الفارغة وراح يعزف عليها إيقاعاً لأغنية هندية جميلة، مصاحباً ذلك بأصوات موسيقية مصدرها أنفه الأفطس. كانت حنجرته تولول بكلمات مبهمة متسارعة، شعرت بوقعها الفاجع المليء بالمواجع والألوان الصارخة المختلطة، المتموجة فوق أديم أرض متربة، والغبار المتصاعد يظلل الوجوه الكالحة وهي تذرف جوعها وقهرها. وقفت رافعاً يديّ نحو الأعلى، هازاً جسدي المتثاقل. بدأت  صور الممثلات والممثلين التي تملأ جدران المخزن تتحرك وتقفز من أماكنها، وضجيج أصواتها المتناغم يصم الكون، مختلطاً بإيقاع النغم المدغم الصادر عن الصفيحة، وبات  يلج جمجمتي بتشويش سحري غير مألوف. رحت أسبح في شذا الكلمات السحرية. أدرت جسدي بسرعة حادة، محاولاً تقليد الراقص الهندي ولكني سقطت على الأرض. حاولت النهوض فلم تسعفني قواي . 

حين استيقظت طالعني سقف المكان الأسمنتي العالي، فأجلت بنظري جدران الغرفة الجرداء، ثم اصطدمت عيناي بباب الغرفة الحديدي ذي الفتحة الصغيرة المشبكة. أعدت وضع جسدي المتشنج لأتكئ على الجدار القريب، فتنبهت لثيابي الملوثة بالقيء، وكانت هناك وجوه تطالعني بلا مبالاة، فعرفت أني في مكان لا علاقة لـه بمحمد وغرفته. غرقت في لجة أفكار متضاربة عن مغزى وجودي في هذا المكان. هل كنتُ إحدى طرائد الليل لدورية شرطة، بعد أن عبثت وعربدت أكثر من المألوف ؟ أم أن أصواتنا الضاجة بالغناء والبكاء أو شجارنا كان سببا لذلك ؟ ولكن أين محمد؟ 

 كنت غير مدركٍ لمجمل ما حدث، ولكن في الأخير هدأت وشعرت بأني على غير عجالة من أمري لمعرفة السبب،لا بل سيان أعرفته أم لم أعرفه. ولم أسأل الرجال القريبين مني، وبدورهم كانوا عازفين تماماً عن الحديث معي. سارت الساعات ببطء شديد. عند المساء نادى شرطي باسمي، مشيراً بيده نحوي. تقدمني ونحن نسير في الممر ذي الضوء الخافت الذي يربط قاعة الحبس بالغرف الأخرى، ثم أوقفني عند باب غرفة علقت أعلاها لوحة خشبية مطلية باللون الأسود وخُط ّ عليها بغير اعتناء وباللون الأبيض، ضابط الخفر . 

زالت دهشتي عندما شاهدت زوج أمي يتربع أحد الكرسيين الضخمين المجاورين لمنضدة ضابط الخفر الواسعة، وكان يطالعني  بابتسامة شامتة. لم يتفوه بكلمة واحدة، وترك الأمر لضابط الخفر، الذي أشبعني تهديداً وشتائماً، ختمها بجملة لا زلت أدخرها وكأنني مطالب أن أفصح عنها يوماً ما . 

ـ ها.. شقي ..تتجرأ لتشتم الحزب!! سوف أجعلك تندم على يوم ولادتك. تتعفن بالحبس إلى ما شاء الله  لتتذكر ولي نعمتك. أرجعوه فلي معه حساب في يوم آخر. 

حين أطلق سراحي من الحبس بعد ثمانية أيام، كان كل شيء يبدو لي مشوشاً وعدائياً مما حدا بي للتحوط من تهديد مرتقب، كنت أشعر دائماً معه، أن هناك من يريد أن ينتزع مني وبشكل قسري شيئاً ما. وبإرباك وضياع، كنت أنزوي مع أسباب ومبررات مفتعلة أحياناً لطمأنة هوسي المتصاعد في مقاطعة عائلتي.  ومثلما لم أصدق حديث محمد حين أخبرني بأن أمي ركعت أمام زوجها وكذلك أختي سمية وتوسلتاه من أجل إطلاق سراحي. عندها أفرغت فورة غضبي وألمي المتراكم بوجهه واتهمته بالبغض والغيرة واللؤم، وملأت مأواه الصغير بكل النعوت التي جادت بها روحي الممزقة. اعتبرت تقولاته محاولة إذلال وحشية جديدة لما تبقى من رجولتي. لم أجرؤ على مناقشة الأمر معه. ومع مرور الوقت لم أبحث عمن يكذّب ذلك أو ينفيه، ولم أبادر للتحقق منه، بالرغم من أن الأمر كان يذلني ويسحقني في كل دقيقة من عيشي. ولم أسأل سمية أو كريم عن حقيقة الأمر، حين قابلتهما عرضا بضع مرات. تحدثت معهما، محاولاً لملمة عواطف مبعثرة أو في طريقها للضمور، ولكني كنت فزعاً من أن يتطرق أحدهما لما حدث تلك الليلة أو بعدها. وكنت، وبأسى وسخرية، أحس مقدار الذل الراكد في أعماقهما، وكيف كانا يخشيان أن يبادرا لذكر شيء عن الماضي القريب، في الوقت الذي أشعر مثلهما باستكانتي وضعفي وخيبتي. 

 منذ خروجي من الحبس، وعلى امتداد عام كامل، لم أقرب الدار، وحاولت جاهداً الابتعاد عن أفراد عائلتي، بالرغم من أني كنت أعمل غير بعيد عن منطقتهم ، أو الأحرى وبدوافع مغرقة بالعاطفة اخترت وفضلت العمل في ذاك المكان القريب. كنت أكبح لهفتي وشوقي بكثير من المكابرة كي لا أدع مجالاً للشك لإقناع نفسي بأن ما أقوم به هو الفعل المناسب، وأن وجودي بالقرب منهم لا يعني إطلاقاً الرغبة في إعادة العلاقة معهم، بالرغم من أن ذلك كان يكلفني الكثير من الجهد والشجون التي كنت أسربها ليلاً ببكاء مرّ، ومراجعات صبيانية لمواقف مترددة وعواطف تبدو أحياناً لا حدود لها. وبدا، وفي مرات كثيرة، أني ما عدت أستطيع أن أحمي نفسي من عواطفي نحوهم. ولكن يبدو في قرارة  نفسي أني اخترت القطيعة. ومن خلال سيطرة مشاعر الإحباط نمت لديَّ رغبة جامحة وصبيانية لمعاقبتهم. وددت معاقبتهم بقدر إحساسي بالطعم المرّ للخذلان. وكان يفاقم ذلك، الحضور الملحّ وشبه الدائم لوجوههم ورضاهم الصامت عند خروجي الأخير من البيت. والأنكى من ذلك شعوري بأنهم يتجنبون ملاقاتي مما حدا بي للتحصن بمشاعر صبي مقامر، يستند في كسب الجولة على مدى قدرته في المطاولة. ويتوجب عليه مراقبة مشاعره بصرامة، وعلى وجه التحديد حين أجد نفسي وجهاً لوجه مع أحدهم بمصادفات غير محسوبة،  فأعاملهم بجفاء وغلظة. ووجدت في النهاية وكأنما صنعت سوراً لأمنع نفسي من الاقتراب منهم، وحسبت، وبشيء من الغباء والحمق الصبياني، أنني سوف أسترد كرامتي لو أجبرتهم على اختراق السور وطلب المغفرة عما اقترفوه من ذنب اتجاهي.  

 كنت أشعر أحياناً أني أغلّ روحي بعيداً في أثر حلم هلامي، أبحث فيه عن مستقر لروحي المعذبة، ولكني كنت وفي كل مرة أتعثر بخطاي وأجد أني ما عدت قادراً على لملمة شتاتي، وقد بدا لي الأمر وكأن قدميّ  تنغرزان  يوماً بعد آخر في مخاضة لم أقدّر حجمها، أو أن حدودها بدأت تهرب مني. 

ومع هذا فقد احتفظت بسخطي بكبرياء مفتعلة ولكن عنيدة. وبمرور زمن ليس بالقصير ظننت أني بعدت عنهم بما فيه الكفاية، وبما يجلب الاطمئنان، على أن وشائج كثيرة لم أعد بحاجة إليها، وقد بدأت تختفي من حياتي. 

 ولكن كل تلك الاستحكامات المفتعلة، المصدّات والانفعالات السائبة، كل تلك القلاع والأسلاك التي نسجتها وحشرت نفسي وسطها، بدت هشّة واهنة وباهتة . تهاوت فجأة بحدة جارفة، ووجدتني مرمياً وسط الدار أبكي مثل طفل، باحثاً عن وجه سمية الضاحك، عن غمازتيها الباسمتين، عن صوتها الهامس الرقيق وأحاديثها المبهجة وضحكتها الكتوم. بكيت وكأنما كنت أريد أن أغسل ذنباً ثقيلاً طاغياً لفـّني مثل كابوس مفزع.  ولكن صوت بكائي كان وحده من يملأ الدار، فخجلت وكتمت شهقتي، خنقتها بصمت أصم.  

 لم يمض على زواجها غير سنة واحدة حين وجدوها تسبح في بركة من دم قاتم ثقيل. لقد عانت الكثير وكتمت الأكثر. ولذا حزت وريدها. اختارت الموت بصمت دون أن تفصح عما يمور في قلبها الطيب الدافئ. لم تحتمل ذاك اليباس الشوكي الذي يلسعها باستمرار سياط مذلة دون أن تُمنح أي خيار في حياة طبيعية وهادئة.  

يتبع 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط

Read our Privacy Policy by clicking here