د.كاظم المقدادي
منذ نصف قرن تحتفل الدول المتحضرة في الخامس من حزيران، من كل عام، باليوم العالمي للبيئة، الذي هو أحد ثمار مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية، الذي إنعقد في ستوكهولم في عام 1972، والذي عيين 5 حزيران يوماً عالمياً للبيئة، وليكون يوماً رئيساً للأمم المتحدة للعمل والمراجعة من أجل تحسين البيئة وحمايتها، ولتعزيز الوعي البيئي العالمي نحو ذلك. إضافة إلى تمهيده الطريق لإنشاء “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” (UNEP) ليكون الضمير البيئي للأمم المتحدة والعالم. وفضى ايضا لتشكيل وزارات بيئية وطنية، وعقد سلسلة من الاتفاقيات العالمية الجديدة اَنذاك لحماية البيئة، والتأسيس لمفهوم “التنمية المستدامة”. واعتمد سلسلة من المبادئ للإدارة البيئية السليمة. وصدرت عنه إعلان وخطة عمل من أجل حماية وتحسين البيئة البشرية.
تأريخياً، أصبح مؤتمر ستوكهولم 1972 أول مؤتمر عالمي جعل البيئة قضية رئيسية. وخلق ما يسمى بـ”الدبلوماسية البيئية” في محاولة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والإدارة البيئية وحماية الموارد. ويُعدُ المؤتمر باكورة إنخراط الدول المهتمة ببيئتها والحريصة على ثرواتها الطبيعية في عملية التعبئة الجماعية والعمل المشترك، وطنيا ودوليا، وإنتهاج سياسة ثابتة للحفاظ على البيئة، تقوم على تجنيد الطاقات وتكريس الجهود لفائدة تنمية مستدامة تجعل من البيئة ركيزة أساسية، وذلك من خلال إدماج البعد البيئي في مختلف الاستراتيجيات القطاعية والخطط والبرامج التنموية.
من هذا المنطلق، يحتفل به الملايين من حماة البيئة والمدافعين عنها في أكثر من 150 دولة، كل عام، مواصلين اهتمامهم بالبيئة، وعازمين على معالجة قضاياها، والتركيز أكثر على أهمية حماية التنوع البيولوجي، والنظام البيئي الذي يدعم الحياة.
وقد نمى الاحتفال على مر السنين، ليصبح أكبر منصة عالمية للتوعية البيئية العامة، وقد أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم العالمي للبيئة للتأكيد على حرصها ودعمها للحفاظ على البيئة وتعزيزها، وزيادة الوعي البيئي. ودعت الى إحداث تغييرات تحويلية في السياسات والاختيارات لتمكين العيش في الطبيعة بصورة نظيفة وأكثر مراعاة للبيئة المحيطة.
لقد سجلت المسيرة العالمية لحماية البيئة تعزيز وتطوير الفكرة الأولية التي أساسها حماية البيئة من التلوُّث، ووضع حدّ لاستنزاف الموارد الطبيعية غير المتجدّدة، للحفاظ على التوازن الطبيعي، وضمان استمرار الحياة البشرية.
وفي هذا السياق، شهدت المساعي الحثيثة للـ UNEP، كمدافع عن البيئة العالمية، والذي خلق قيامه الإطار الموسّسي للعمل البيئي الدولي، انبثاق معاهدات واتفاقات أسست ووضعت معاييرا وقيوداً وأهدافاً وإلتزامات لحماية بيئة العالم..
واقترانا بذلك، إتسع عدد الدول التي أصبحت حكوماتها تدرك جيداً ان الحرص على بيئة بلدها وحمايتها وتحسينها إنما تسعى عملياً لحماية وتحسين صحة وحياة مواطنيها، حاضراً ومستقبلآ. ولذا، فهي تحتفل باليوم العالمي للبيئة تعبيراً منها عن تأكيدها المتجدد لأهتمامها بحماية بيئة بلدها، من خلال تنفيذ مبادرات تساهم في خلق مجتمع واعٍ بأهمية المشاركة في الحفاظ عليها، ضمن أهداف التنمية المستدامة، بالإضافة إلى رفع مستوى الوعي البيئي لدى المواطنين، وتنفيذ مجموعة من الأنشطة والفعاليات والمشاريع الرامية
لبلوغ بيئة صحية،ضمن الهدف الاكبر- الحياة الآمنة والكريمة والمزدهرة لمجتمعها، من خلال الحفاظ على موارد البيئة المستدامة، وتحسين شروط الحياة وظروف البيئة المحيطة بها.
إحتفالات اليوم العالمي للبيئة لهذا العام 2022 ستكون متميزة عن بقية الأعوام التي سبقته بأنشطتها وببرنامجها الحافل.
فهو يصادف مرور 50 عاماً على مؤتمر الأمم المتحدة الأول المعني بالبيئة البشرية (مؤتمر إستوكهولم عام 1972)، وما نمخض عنه من قرارات، وما تحقق من إنجازات..
وتقام الإحتفالات تحت شعار ’’لا نملك سوى أرض واحدة‘‘، وهو نفس شعار مؤتمر ستوكهولم لعام 1972، الذي ظل ساريا بعد مرور 50 عاما، ومجسدا بقوة ان كوكبنا هو الموطن الوحيد، الذي يجب ان تحمي البشرية موارده المحدودة، وتعيش بإستدامة ووئام مع الطبيعة..
ولعل الحدث الأبرز هو “مؤتمر ستوكهولم +50 ” الذي تستضيفه السويد بالتعاون مع UNEP في مطلع حزيران، والذي يستكمل الجلسة الإستثنائية الخاصة من الدورة الخامسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة، التي إنعقدت في مطلع اَذار الماضي في نيروبي، بكينيا.
الحدثان يحييان الذكرى الخمسين لانبثاق UNEP ولتعزيز إنجازاته..
بيد ان أنصار البيئة في العالم يعولون على مؤتمر ستوكهولم ان يكون أضخم اجتماع دولي يواجه التحديات البيئية على كوكب الأرض، وأن يسلط الضوء على الحاجة إلى العيش بشكل مستدام وفي وئام مع الطبيعة، عن طريق إحداث تغييرات تحويلية -من خلال السياسات وخياراتنا- نحو أنماط حياة أنظف وأكثر مراعاةً للبيئة. وأن يعزز أهمية مواصلة العمل البيئي الدولي لتعزيز الديبلوماسية البيئية والمعايير والممارسات البيئية السليمة، ولتسريع تنفيذ تحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030، إلى جانب تحقيق التعافي المستدام من جائحة كوفيد-19.
في هذا المضمار،أعلن وزير البيئة والمناخ ونائب رئيس الوزراء السويدي بير بولوند: ’’هدفنا واضح، نريد أن يقدم اجتماع ستوكهولم بعد 50 عاماً مساهمة ملموسة لتسريع التحول إلى مستقبل مستدام .. الوقت ينفد بالنسبة لنا، وثمة حاجة لاتخاذ إجراءات عاجلة. سنسلط الضوء على الاهتمامات البيئية الأكثر إلحاحاً..إنها تحديات عالمية، ويجب علينا مواجهتها باستجابة عالمية تدفع بدفة االعمل على أرض الواقع”..
من جهتها، قالت إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لـ UNEP أنه ” في عام 2022، نأمل أن نرى العالم يتجاوز منحنى الخطر بشأن جائحة كوفيد-19، لكننا نفعل ذلك مع العلم بأننا ما زلنا نواجه الأزمات الكوكبية الثلاث وهي تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث‘‘.
واضافت: ’’يذكرنا إعلان ستوكهولم 1972 وموضوع يوم البيئة العالمي الذي يضع الطبيعة والناس في قلب العمل البيئي – بجذور العمل الحاسم لحماية بيئتنا، ويضخ زخماً حيوياً للجهود العالمية لإعادة البناء بشكل أفضل وأكثر مراعاةً للبيئة‘‘ .
وقالت: ’’لقد قطعت السويد، منذ استضافتها مؤتمر ستوكهولم قبل خمسة عقود، خطوات جادة، وسجلت استثمارات نحو حماية البيئة، بما في ذلك الهدف المناخي على المدى الطويل المتمثل في الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2045، وانبعاثات سلبية بعد ذلك‘‘.
واختتمت:’’إن دورها المرحب به كبلد مضيف لاحتفالات يوم البيئة العالمي في عام 2022 هو بالتالي انعكاس للالتزام التاريخي والقيادة ومستوى عالٍ من الطموح للمستقبل.‘‘
في الواقع، ثمة تحديات كبيرة وجدية تواجه مؤتمر ستوكهولم + 05 ، ومنها ضعف المساهمة الملموسة لتسريع التحول إلى مستقبل مستدام، ومساعي استخدام شعار “التنمية المستدامة” لوضع التنمية فوق البيئة، واعتبار حماية البيئة عائقاً..
ويعاني UNEP من مساعي الهيمنة، وقد شهدت مسيرته خلال العقود الأخيرة عدم تبات وعدم رسوخ عمله القيادي، وتعرَضَ لحرفه عن الإستقلالية، وتحويله إلى إدارة تابعة. وشاب عمله الكثير من العراقيل والمعوقات الجدية، ولم تنفذ الكثير من الإلتزامات والتعهدات، وتحول قسم كبير منها الى مجرد
حبر على ورق، نتيجة لتجاهلها، والتملص منها، وحتى التجاوز عليها، من قبل بعض حكومات الدول العظمى وفي مقدمتها الإدارة الأمريكية..
أزاء ذلك، كتب الخبير البيئي نجيب صعب ، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، الذي عمل مع UNEP سابقاً كخبير ومستشار، يقول:” لو التزمت الدول بوعودها في السبعينات والثمانينات، لما كانت الحاجة إلى وضع أهداف جديدة في “قمة الأرض” حول “البيئة والتنمية” في ريو عام 1992، ورفدها بأهداف إضافية في قمة “التنمية المستدامة” في جوهانسبورغ عام 2002. والكلام هنا لا ينحصر بالتخلُّف عن تنفيذ الوعود البيئية فقط، بل عن الالتزامات الإنمائية أيضاً.”
وأكد صعب ان ” أبرز ما حققه UNEP خلال سنواته الخمسين الماضية هو وضع البيئة على جدول الأعمال الشعبي والحكومي والدولي، وتطوير إطار قانوني من خلال عشرات الاتفاقات والمعاهدات الدولية، من التلوُّث والنفايات إلى البحار والتصحّر والتنوُّع البيولوجي وتغيُّر المناخ.. ومع تعدُّد مهمّاته وأجهزته، كان لا بد من تطوير أنظمته وتركيبه الإداري، لكن هذا أدى أحياناً إلى خسارة بعض ما تميَّز به من طهارة ونقاء”..
واختتم صعب:”أن تفعيل العمل البيئي الدولي بحاجة إلى استعادة الصفات القيادية لموريس سترونغ ومصطفى طُلبَه، لمنع وضع UNEP تحت رحمة وكالات التنمية والتمويل الدولية، وتحويله إلى إدارة تابعة للأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك”..
نأمل، مع كافة حماة البيئة ومحبي الطبيعة، ان يواجه “مؤتمر ستوكهولم + 50” التحديات الساخنة، وان يضع المساهمات الملموسة للتحول نحو مجتمع دولي أكثر استدامة، ويُحسِنُ علاقته مع الطبيعة أكثر، وفهم قيمتها، ووضع هذه القيمة في صميم عملية صنع القرار، وصولآ لتأمين عالم يتسنى فيه للجميع ان يعيشوا في كنف السلم والمساواة على كوكب ينعم سكانه بالعيش الامن والكريم وبالصحة والبيئة السليمة !
· د.كاظم المقدادي، أكاديمي متقاعد، عراقي مقيم في السويد
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط