فرات المحسن
سطع ومض خاطف شق ظلمة السماء ، ثم أعقبته أربعة انفجارات متتالية رج هديرها المزمجر محيط الفوج. تيبست في مكاني، ثم بدأت أزحف بعجالة نحو الملجأ الشقـي القريب، وجسدي ينتفض من الخوف. قفزت داخل الملجأ مستنداً على يديّ، وقعدت مستسلماً خائفاً أنتظر المجهول. أصابني الرعب وبدا أن قلبي سيتوقف، وشعرت بالاختناق حين أغلق فجأة ظل جسد ضخم وجه السماء المفتوح أمامي. للوهلة الأولى حسبته وكأنه فحل جاموس أسطوري قدم لكي يطمرني في حفرتي التي هيأتها بيدي. تكوم فوقي بثقله. انكمش جسدي وكانت يداي العاريتان تدفعان الجسد الثقيل بآخر مصدات درء يقين الموت .
ـ أنا رياض …
ـ رياض .. ما الذي أتى بك الساعة يا فحل التوث ؟!
ـ كنت قادماً إليك قبل أن يبدأ القصف . رأيتها.. رأيتها سقطت عند موضع الحفار جوار ملجأ حظيرة جابر.
دوت مرة أخرى مجموعة انفجارات متعاقبة هزت الفوج، وكان رمل الملجأ ينثال ليملأ شعري وملابسي. تنبهت إلى أني لم أجلب خوذتي ونسيت سلاحي تحت وسادتي في ملجأ السكن .
ـ أنت أيضاً دون خوذة وسلاح !
ـ قدمت لأحادثك دون أن يخطر لي … أتظنهم سوف يهجمون.. وما ترانا فاعلين ؟
ـ هذه أيام حاسمة. يبدو أنه قصف طائرات على ما أظن. إذ لم تسقط قذائف أخرى فوق الوحدات المجاورة. ولو أرادوا الهجوم الآن لاستمر القصف دون توقف، ولشمل الجبهة جميعها. على أية حال إنه لغز نحن غير قادرين على حله. وإن أرادوا الهجوم فإن عصا موسى الموعودة قد أكلها القطيع في غفلة منه. فلا خوذة تتدارك الأمر وبغير كلاشنكوف يتدبر الناس نجاتهم أحياناً.
ـ أينما أذهب أجد الفلاسفة أمامي. الآن أنت والبارحة هاشم وكأنكما تتعمدان الحديث بكلام لست بقادر على إدراكه. البارحة كنت أدندن بكلمات أغنية حفظتها منذ صباي دون أن أتملى معانيها، بل فقط أرطن بها لأن لحنها أعجبني . يا ليل الصبّ متى غده … أقيام الساعة موعده. هز هاشم رأسه بتثاقل وسألني بلهجة لم أرتح لها وكأنها تهديد:
ـ ها رياض، يمكن الوضع ما عاجبك، ماذا تقصد بليل الصبّ متى غده ؟
حدثته عن حبي لتلك الأغنية، ولكني شعرت في النهاية أنه غير معني بتفسيري لنص الأغنية، بقدر إصراره على اعتبار أن الأمر يخفي وراءه قصداً آخراً. وأخذ يرطن بالوطنيات لأكثر من ساعة دون أن أدرك ما يبتغيه. الحقيقة أني خائف منه، فأنت تعرفه جيداً، فسبق وأن فعلها مع غيري. إنه متبرع إيذاء. كفانا الله شره. والله، لم أكن ألمّح بها لشيء آخر غير الأغنية. أتعرف أنت معنى كلمة صبّ ؟
ـ الصبّ يا صاحبي، وبعد أن انتهى القصف الآن، هو الصبابة أي الحب أو العشق،الهيام والوله، دو يو أندر ستاند ؟
ـ أثول. أبو العقد. لو تتفلسف لو تتعيقل. قل الحب وخلص.أخبره عن خوفي من تلميحات هاشم يرطن معي بالأجنبي!
ـ أتعرف أين نحن الآن ؟
ـ ياله من سؤال غريب ؟
ـ لا تخف يا صاحبي فنحن في حفر الباطن. هذه الكثبان ليست لغير البدو وقطعان الإبل. سوف يأتي يوم قريب تطأ الإبل بخفافها قبورنا جميعاً، وتتبرز ثم تدفع بولها الساخن فوق الرمل، دون أن تدري أن تحت هذه الكثبان، يرقد ركام أجسادنا بكل ذلك الجلال من العاهات النفسية والجسدية.اطمئن فالإبل لن تكتشف خوفك أو خبث هاشم ولا يأسي وعقدي.
ـ أوه، ما الذي أتى بي إليك .. عليّ الذهاب الآن إلى الحظيرة. ربما حدث شيء ما أثناء القصف.على أية حال جئت أخبرك أن عبد الرحمن سوف يذهب غداً إلى بغداد في مأمورية. يمكنك أن تبعث معه رسالة إلى أهلك.هو من أخبرني ذلك. طلب مساعد الفوج منه إيصال رسائل جميع من يسكن أهلهم في بغداد. الوعد بإيصالها جزء من المأمورية الموعودة .
ـ ربما فعلت ذلك .
ـ فكر بالأمر .
يتبع
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط