بعد الإساءة الى أم كلثوم… “الرمز” في زمن التراند!

لوحة الست للفنان وجيه يسي

لوحة الست للفنان وجيه يسي
أثيرت في الأيام الماضية قضية لم تُحسم بعد؛ ففي ندوة في اتحاد الكتاب المصري وصف الشاعر ناصر دويدار أم كلثوم بأنها تزوجت “11 مرة” و”صاحبت 11 مرة”. في جملة “استطرادية” منه لا تنفي عظمتها.
ولكن ما علاقة تلك الجملة “الشخصية جدًا” بمنجزها الغنائي؟ وما الذي يضيفه هذا الاستطراد الآتي من نميمة المقاهي في ندوة عن تأثير الأغنية على “وجدان أمة”؟
للمسألة أربعة تأويلات: رغبة المتكلم بأن يبدو مطلعًا على أسرار، نزع هالة القداسة حول الرموز وتأكيد بشريتها. ولأنّ “السوشيال ميديا” شجعت الناس، على مجاراة “الترند” والجرأة على الآخرين، تأثر الشاعر بذلك واعتمده في ندوة يفترض فيها الحد الأدنى من الرصانة.
التأويل الرابع: هوس الشهرة، فمن كان سيعرف اسم الشاعر لولا جرأته على “الست”؟ ليس في الأمر انتقاص من تجربته لكن المؤكد أن من عرفوا اسمه كانوا يسمعون عنه للمرة الأولى.
هذا الأمر ليس بجديد، بل يتكرر كثيرًا، ففي شبابه هاجم طه حسين بضراوة الكاتب الأشهر مصطفى لطفي المنفلوطي، وعندما سئل عن هجومه قال: “كنا نريد جبلًا نصعد عليه”.
فكثيرًا ما يبحث المغمورون والشباب عن عثرات الكبار المكرسين (الجبال) للصعود فوق أكتافهم، ونقل ما حققوه من شهرة عبر السنين، إلى أنفسهم بالضربة القاضية.

اعتذار وبيان ونيابة
خلفت التصريحات ردود غاضبة جدًا، حيث أصدرت نقابة المهن الموسيقية بيانًا شديد اللهجة، ينطلق من شعور عام بأن هذه “التصريحات” ليست اعتباطية وإنما هي ممنهجة للنيل من مصر ال “حاضرة في الزمان والراسخة كالطود في المكان” مرة أخرى يستعار تشبيه “الطود” أو “الجبل” كناية عن مصر والست.
كما قدم ورثة الست من أحفاد أختها وأخيها، بلاغًا للنيابة مع تأكيد عدم رغبتهم في سجن الشاعر وإنما ترسيخ مبدأ احترام المبدعين.
سرعان ما اعتذر دويدار وقال “من أنا لكي أُخطيء في حق سيدة الغناء العربي” مشيرًا إلى أنه تعرض قبل الندوة لسكتة دماغية، وما ورد على لسانه كان بصيغة “يقال”. تبريرات لكسب التعاطف والتراجع، ولكن هل تكفي لإيقاف البلاغات ضده؟
جانب مظلم
“كلنا مثل القمر؛ له جانب مظلم”، فثمة من لا يفهم هالة القداسة التي تحيط بفنانين مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز. أليسوا بشرًا لابد أن كانت لديهم أسرار ونقاط ضعف؟
لم يكن دويدار أول من حاول الصعود فوق جبل أم كلثوم، فسبق أن نشرت مقالات هنا وهناك عن حياتها العاطفية والجنسية.
كما استثمر الكاتب محمـد بركة رمزيتها المهيبة في روايته “حانة الست” التي صدرت قبل أشهر، وهي سيرة “تخييلية” على لسانها، ترفض هالة القداسة، وتظهرها بالمظهر البشري كفنانة تهتم بجمع المال واستغلال الآخرين والانتقام أحيانًا. أي أن الرواية أسست جماليتها على النبش في التاريخ المضاد والمسكوت عنه لها.
ما يشفع للرواية أنها عمل إبداعي يقدم تصورًا ولا يدعي “الحقيقة”. وأيضًا المقالات التي نُشرت عن ذلك الجانب المظلم، تدخل في نطاق البحث والاستقصاء.
لكن المختلف في قضية الشاعر أنه لا يقدم نصًا تخييليًا وإبداعيًا، ولا مقالًا يختلف ويتفق الناس حول قوة أدلته، وإنما أطلق نميمة مجانية لا تليق بالست ومقام الندوة.
أشهر هجاء
لعلّ أشهر هجاء وجه إليها كان للشاعر الشاب- آنذاك- أحمد فؤاد نجم، في قصيدة استلهمها من واقعة تعرض شاب يدعى إسماعيل لعضة من كلب الحراسة أمام “فيلتها” في الزمالك، وخرج إسماعيل نفسه يعبر عن سعادته بأن كلب الست عضه!
ما أغضب نجم ومما كتب: “تعمل إيه الست/جابت فوكس رومي وله ودان/ فوكس دا عقبى لأملتك/ عنده دستة خدامين/ يعني مش موجود في عيلتك/ شخص زيه يا إسماعين”.
هجائية نجم تفكك أسطورة الست وما كان لها من نفوذ شعبي ورسمي لدى الحكومة، ويُروى أنها غضبت وقالت: “دا أنا هاخرب بيته” ولأن نجم عاش صعلوكًا ردوا عليها “مالوش بيت عشان تخربيه”!
قدم نجم شعرًا هجائيًا لا يُعاقب عليه القانون، اتساقًا مع ذاته في تقويض السلطة بمختلف صورها، لكنه في الوقت نفسه كان يعظّم تجربة الست باعتباره من “السميعة” متمنيًا لو غنت له.
فلا يجب أن تغيب تلك الشعرة بين ما هو تطرق للرموز عبر نص إبداعي (رواية، قصيدة) أو “نقد” أو بحث في نقاط ضعفهم وتأثيرها على موهبتهم، وبين السب والإهانة لأي أحد مشهورًا أو مغمورًا.

تشويه السمعة
تزامن رحيل أم كلثوم، وصعود تيارات الإسلام السياسي، حيث ارتفعت نبرة تحقير الفن وحملات ارتداء الحجاب، والتنقيب في أسرار الفنانين وحياتهم الشخصية، لاتخاذها حجة ضدهم، وتشويه “رمزيتهم” والاستخفاف ب”تأثيرهم” على الناس.
كانت حملات مبرمجة من أشهر آلياتها، وضع صورة لفنان في عز نجوميته، رشدي أباظة مثلًا، ثم صورته في محنة المرض، لتمرير رسالة بأن هؤلاء الفنانن نهايتهم سيئة جدًا جزاء ما اقترفوه من آثام، رغم أن الموت والمرض يصيبان الجميع: المتدين وغير المتدين.
وتزعم الشيخ كشك أشهر دعاة السبعينات، حملة تشويه أم كلثوم فكان يحذر الناس منها ومن أغانيها وهاجم مشروعها “دار أم كلثوم للخير”. وقال عنها “امرأة في الستين وتقول خدني في حنانك خدني”.
طبعًا لم يقتصر هجومه عليها فقط مستفيدًا من حنجرته القوية المؤثرة وفصاحة لسانه، فهو من تندر على معجزتي عبد الحليم بأنه “مسك الهوا بإيديه” و”يتنفس تحت الماء”!
كان ثمة صراع بين السلطة وتيارات الإسلام السياسي، دفع ثمنه هؤلاء الرموز، فالطرف الأول استغلهم أحيانًا، والطرف الآخر رأى في تحطيم “هالتهم” تقويضًا لأهم أدوات السلطة.
كما اشترك يساريون مع هذه التيارات في التهكم على الست وتحميلها مسؤولية نكسة 67، كأنها من كانت تقود الجيوش! رغم أن هذا يتنافى مع دورها الوطني وما قدمته من أناشيد عقب النكسة لتحفز الشعوب العربية، وما خصصته من إيرادات حفلاتها للمجهود الحربي، وزيارة الجنود في خطوط القتال.

تدنيس وتقديس
إن المقدس يتسم بالخلود والاستقرار في الوعي الجمعي، ليس لخصائص ثابتة فيه بالضرورة، وإنما باختيار الناس وإجماعهم عليه وما يضفونه عليه من سحر، فينتقل من “العادي” إلى “الأسطورة” التي لا تقبل المساس بها.
فلم تعد أم كلثوم مجرد مطربة، وكشأن كل مقدس أسبغ الجمهور عليها أوصافًا تكرس هذا التقابل والازدواج بين المقدس والمدنس. كلها تدلّ على العلو والخلود: كوكب الشرق، الست… الهرم الرابع (يشبه الجبل) فليس غريبًا أن تحضر كنايات “الطود” لما تنطوي عليه من خلود وعلو وطهر يرتفع على دنس العادي.
هنا يرث تقديس المبدعين ذلك التقديس الطوطمي لدى الشعوب البدائية التي كانت تعيد تصنيف قوى الطبيعة حولها على محور الخير والشر، طمعًا وخوفًا. فهو تقديس قائم على الاحترام وليس دينيًا بالدرجة الأولى.
ولأن لعبة التصنيف لا تتوقف والأسئلة لا تنقطع… لماذا نعتبر فيروز رمزًا أكثر من صباح؟ لماذا يسهل نقد الأخيرة والتطرق لحياتها الخاصة ولا يقبل ذلك مع الأولى بسهولة؟
إن مقاربة المجتمعات الشرقية مختلفة جذريًا عن الغربية، التي تعتبر ما تقدسه أنت شأن ذاتي خاص بك وغير ملزم لأحد، ولا يصح أن يقيد “حرية التعبير” وهو الاختلاف الذي تسبب في الإساءة لرموز دينية شرقية ضمن إبداعات غربية.
إن الرمزية- في الإبداع- تنطلق من عوامل عدة أهمها: المنجز الضخم الذي يبدو إعجازيًا وغير قابل للتجاوز مثل تجربة فيروز في الغناء، أو محفوظ في الرواية. من ثم يصبح صاحبه صوت الشعب والقبيلة والقومية، و”المثال” الذي يجب أن تحتذي به الأجيال، والنموذج الأسمى لكل من ينتمي إلى “مجاله الإبداعي” كأنه يختصر النوع الفني كله في تجربته.
هذا التصور ليس حاضرًا بوضوح في الثقافة الغربية القائمة على “التعدد والتنوع” وليس “التراتبية السلطوية”، والتي تعلي من شأن النزعة الفردية، وليس البحث عن رمز لاصطفاف النوع (والشعب) وراءه.
مع ذلك، ما الذي يتبقى لنا لو قبلنا إهانة كل ما نعتبره رمزًا. إهانة علم البلاد، وأغانيها، وشعرائها العظام، والشهداء، والمناضلين؟ ماذا لو قلنا لا فرق بين أم كلثوم وحمو بيكا؟ (مع الاحترام له) أتصور أنه لن يبقى لنا سوى البؤس وانعدام المعنى والقيمة وانتشار التفاهة الاستهلاكية في غياب المعيار.
أليس عجيبًا أن يشدد الغرب على حقي في الدفاع بالسلاح عمن يتسلق سور حديقتي، ثم بزعم حرية التعبير يتيح للآخر أن يجرح قلبي ويهين “رموزًا” تمثل لي قيمة سامية جدًا في حياتي؟ ألا تستحق “الرموز” حماية أو حصانة مثل تلك التي تُمنح لشخصيات سياسية سرعان ما تذهب إلى النسيان.
لماذا قدسها الناس؟
لأن أم كلثوم ليست مجرد مطربة (وكل مبدع يستحق الاحترام وصون حياته الشخصية) فليس صدفة أن تحمل هذا الاسم وأن تولد ابنة لشيخ. ولا أن تلتقي أستاذها أبو العلا محـمد في محطة قطار، وهو أيضًا شيخ. ولا أن ينصح زكريا أحمد والدها بالسفر بها إلى القاهرة، وهو كذلك شيخ.
كانت موهبة مباركة من طمي النيل وهو على وشك المصب، تعلمت في المدرسة القرآنية: التلاوة والإنشاد في الموالد، وسخر لها الله ثلاثة استمروا معها بإخلاص قرابة نصف قرن هم: محـمد القصبجي مؤسس “تختها” والذي نقلها من مغنية “قروية” لفنانة الشعب، ووجد فيها ـ كموسيقار حالم ـ الصوت الذي عاش يحلم به، ثم أحمد رامي شاعرها المفضل ومستشارها الفني، وانضما إليهما متأخرًا عشر سنوات ملحنها المفضل رياض السنباطي.
عروبيًا ووطنيًا وجد فيها ضباط يوليو مصريتهم كفلاحين وصعايدة، ووجدت فيها الشعوب العربية كلها صوت “القومية” الناهضة والجريحة في آن.
نقلها عبد الوهاب من الجلال إلى الدلال المصري، وأمدها ملحنون شباب بروح كل العصور أمثال بليغ حمدي ومحمـد الموجي وكمال الطويل وسيد مكاوي.
صوت مازال يصدح إلى يومنا هذا كل ساعة وكل يوم، في مقاهي وبيوت وشوارع “العرب” من مراكش إلى مسقط، في البصرة والكويت وجدة وصيدا وغزة وعدن. في كل نهج وزقاق وحارة وكل كوخ على نهر وبحر، سمعهاـ-ومازالوا- الملايين فتعلموا الحب على آهاتها، ورقصوا وابتهجوا على موسيقاها. علمتنا وعلمتهم: الحب والإنسانية والانتصار على الواقع بالخيال: “وإيه يفيد الندم مع اللي عاش في الخيال”، علّمتناـ وعلّمت أجيالًا طيلة مائة عام ـ ألا تعارض بين اللذة وحكمة الروح.
كانت عجينة الجب التي امتصت حضارة الفلاحين على مدى عشرة آلاف عام، وحضارة العرب مسلمين ومسيحيين، فغنت للسوري واللبناني والمصري والسعودي والسوداني والتونسي والباكستاني والفارسي.
إنها كأس الحب المباركة التي سكرنا منها جميعًا فما فرغت ولا صدأت. وعلى حسها طربًا ورقصنا وانتشينا وآمنا بعظمة الواجد ونعمة الوجود. لأن “القلب يعشق كل جميل”.
المصدر: القاهرة- النهار العربي
شريف صالح
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
, ,
Read our Privacy Policy by clicking here