الناس خائفون.. فمن يُطمئنهم

الناس خائفون.. فمن يُطمئنهم
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
هل كتب الخوف من المجهول على جباه العراقيين جيلاً بعد جيل، وهل حفر القلق المرعب في لوحهم منذ فجر تاريخهم، حتى بات لعنة أبدية.. وإلّا ما هذا العذاب، والجحيم، والقلق الذي لا يبارح صدورهم وعقولهم منذ حياتهم الأولى حتى هذه اللحظة، وكأنه أمسى قدرهم المحتوم ؟!

إن حجم المساحة المخصصة لهذه الافتتاحية لن يسمح لي مؤكداً أن أمضي عمقاً في تاريخ العراق القديم، أو أغوص في عصور العراقيين الأولى، فأستذكر لكم تلك الحياة البعيدة، المزدحمة بصور المآسي والآلام، والمؤطرة بهواجس الخوف المفجع والمرعب، لا سيما وأن هواجس تلك العصور لن تختلف عن هواجس الخوف والقلق في العصر الحديث.. فكل عصور القلق العراقي متشابهة، وقد تختلف ربما أشكال المخاوف من عصر لآخر، نتيجة لاختلاف الظروف البيئية والصحية والأمنية والمعيشية، لكنما القلق يبقى ذاته، وعدم الاطمئنان هو نفسه، لن يتغير أبداً ..

ومن المفيد أن أذكر هنا، أن لائحة مخاوف العراقيين وقلقهم التاريخي تنحصر في سؤال واحد مفاده: ماذا سيأتي غداً؟

فهذا السؤال الملغوم المخيف بقي مسلطاً كالسيف على حياة الناس، ومقلقاً لسعادتهم من عصر الى عصر ، فالخوف كان سابقاً من قدوم موسم الفيضانات المدمرة تارة، والخوف من الأمراض المفترسة التي كانت تداهمهم تارة أخرى، كالطاعون والجدري، والتيفو (مرض التيفوئيد)، والسل الرئوي، والكوليرا وغيرها من الامراض ..

ثم تغيرت هواجس القلق واستدارت نحو جهات أخرى، حيث الخوف من غزو الآخرين، والاجتياحات التترية المتعاقبة، وحروب العقائد الدينية المختلفة، ومعارك المنافع المادية، وغيرها، فكان العراقي في مختلف العهود يضع سلاحه قرب رأسه خوفاً من غازٍ ، واستعداداً لطامع، وتحسباً لسطو قاتل مأجور !

قد تختلف الأزمان وتتغير الأنظمة والقوانين، لكن القلق من المصير المجهول ظل ملازماً للعراقي، لم يتغير أو يختلف قط..

وطبعاً، فإن مخاوف المواطن العراقي ازدادت خلال سنوات القرن الأخير، بعد أن تطورت أدوات الرعب، وازدادت الأسباب، وتكاثرت جيوش القتل، بدءاً من الميليشيات المختلفة، وذئاب داعش والقاعدة، وقبلها بعقود كان زوار الفجر من أتباع بهجت العطية، مروراً بكلاب گزار وبرزان ووطبان وصلفيج وأبو طبر وغيرهم، مروراً بالمقابر الجماعية واحواض التيزاب، والكيمياوي والأنفال وحلبچة والغاء الحياة في الأهوار، وقبل ذاك، كان لوحوش الحرس القومي البعثي دور فظيع في صنع كوابيس الرعب في منام العراقيين.

وبقي مسلسل الخوف من المصير المجهول متواصلاً مثل مسلسل مكسيكي لايعرف المشاهد متى يصل حلقته الأخيرة! .

إن هذه الكوابيس المرعبة التي مرت على أبصار ومخيلات العراقيين كانت كافية لان تجعل حياتهم جحيماً لا يطاق، إذ يكفي أن تذكر حروب صدام ومغامراته الدموية، وتذكر محنة الجوع والمرض والخوف إبان سنين الحصار، وأيام الفتنة الطائفية البغيضة التي سال فيها دم طاهر كثير، فضلاً عن جرح سبايكر الدامي، ومأساة العراقيين وإذلالهم الذي لا يتوقف عند الحدود الأردنية، او مطارات السعودية ومصر او غيرهما من الدول العربية ( الشقيقة)، كما يكفي أن يتذكر العراقي أن له أشقاء، يعتاش أطفالهم اليوم على فضلات القمامة في حاويات المذلة في حي طارق والأحياء الفقيرة الاخرى، في بلاد يصل مدخولها من النفط الى مليارات الدولارات شهرياً. اقول، إن هذا يكفي لان يجعل العراقي قلقاً، مستفزاً، خائفا على مستقبله ومستقبل أطفاله.

ومع هذا الالم والدمار كله، يأتيك السياسيون العراقيون بكل اللا مبالاة، واللا مسؤولية الفاحشة التي يتميزون بها، ليزيدوا جراحنا جراحاً، وأوجاعنا وجعاً، ويراكموا لنا مخاوفنا ورعبنا..

نعم، فالعراقيون الطيبون الذين حملوا السلاح وقاتلوا داعش، وهزموه، ومضوا الى صناديق الانتخابات لينتخبوا رغم الصعاب التي واجهتهم، العراقيون الذين ارتضوا ا بنصف رغيف من الخبز ، وتحملوا الضيم والعوز، ومضوا ينتخبون أمس من أجل التغيير نحو الأفضل.. لم يحصلوا منه سوى الهواء في الشبك! فأي تغيير هذا الذي حصل، وأي (أفضل) هذا الذي نراه اليوم أمامنا ؟

ماذا جنى المواطنون العراقيون جزاء صبرهم المر، وماذا كان حصاد كفاحهم وحرثهم وبذرهم وسقيهم وتعبهم وسهرهم؟

أمِن أجل هذا الذي نراه ونعيشه الآن، أمِن أجل هذا التخبط والانسداد والتناحر السياسي الذي بات يغلق منافذ نفقنا المظلم، أمِن أجل هذه (الجريّة) البائسة صام العراقيون كل هذه السنين؟

نعم، لم ينل شعبنا من كيس السياسيين الفاسدين غير مماحكات ومناكفات وتسقيطات يتبادلونها بينهم بمهارة، فحسب، حيث يسعى الجميع لمصالحه الشخصية، ومنافعه الفئوية او الكتلوية أو الحزبية أو العائلية.. أما الشعب، فليذهب الى الجحيم !

في كل يوم لعبة وحركة بهلوانية، واسئلة وزارية مسربة، واحتلالات تركية، وتوقف الغاز الايراني، وقطع كهربائي واسع، وجوع رهيب، وغلاء غير معقول، وبين يوم وآخر حكم ومحكمة اتحادية وقرارات تنقض اخرى، ورفض بل واحتقار كردستاني لكل ما يصدر عن بغداد، ثم استقالات واقالات من البرلمان، والحبل لم يزل على الجرار ..!

لذا يتوجب على العراقيين أن يعرفوا جيداً، ان كل المبادرات التي أعلنت عليهم كانت كاذبة، لا تهدف إلا لإضاعة الوقت، وإبقاء الحال الحالي على حاله، وليعرفوا أيضاً أن كل (الأفلام) والمسرحيات السياسية التي عرضت سابقاً، وتعرض حالياً، وستعرض غداً هي ليست أكثر من أعمال تمثيلية فاشلة، تنقصها الجودة والوطنية والابداع والاقناع، وإن ما يحصل اليوم على المسرح السياسي هو ضحك على ذقن المواطن، وليس اضحاكاً للمشاهد كما كنا نظن !

خلاصة القول يأتيكم عبر سؤال واقعي مفاده: الناس خائفون من الغد، فمن يطمئنهم؟

والجواب: أنا الذي يطمئنهم، مادام السياسيون لا يكترثون لهم.. ولا يهمهم أمرهم.. واتساقاً مع جوابي هذا، ارجو من العراقيين أن يواصلوا مشاهدة مسلسل (الخوف من باچر) بقلب قوي، دون كلل أو ملل، مهما كانت حلقاته تراجيدية (هندية)، فمادام سياسيونا وقادتنا (أعزهم الله) لا يعنيهم امر العراقيين، سواء أجاعوا او مرضوا أو قلقوا، فأنا واثق تماماً، أن الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل باتت قريبة، وأن نهاية (أبطال ) هذا المسلسل ستكون قريبة جداً، وعلى أيديكم انتم أيها العراقيون هذه المرة، وليس بأيدي غيركم ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here