شُبهة مثيرة ــ قصة قصيرة

شُبهة مثيرة ــ قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

كلما كان يخرج الجار لصلاة الفجر كان يلاحظ الجارة المقابلة لبيتهم تخرج وهي تلقي نظرات وجلة ومرتبكة حواليها للتأكد فيما إذا لا يراها أحد ما ، لتمضي بعيون ناعسة و بخطوات خافتة إلى شأنها هوينا ، تحت ضوء فجر فضي ضارب إلى عتمة لا تني تتلاشى وتزول شيئا فشيئا ..
عُرف عنها في المحلة أن زوجها الراحل والكاسب الكادح كان قد قضى من جراء تفجير انتحاري ، مخلفّا لها خمسة أطفال بلا فلوس متوفرة أو أي معيل آخر..
و بسبب تكرار خروجها اليومي فجرا زادت هواجسه و ظنونه إلى حد أخذ يراقبها باهتمام وتركيز من خلال ثقوب الباب الخارجي للبيت .. متحدثا مع نفسه بزخم من أسئلة ملحة ومتسارعة على نحو :
ـــ يا ترى إلى أين تذهب في مثل هذا الوقت المبكر جدا و بهذه السرية و الخفاء والغموض المبهم ؟.. لابد إنها تقوم بعمل غير مشروع .. ولكن ما هو ؟..هذا ما ينبغي كشف خفاياه المبطنة ..
و كانت هي لا تمضي على غيابها إلا بضع ساعات حتى ترجع حاملة كيسا فيه بعض حاجات و أشياء يسيرة و شحيحة في أغلب الأحوال ..
وهو الأمر الذي كان يجعل الجار يزداد بزخم جديد ومزعج من هواجس وظنون وافتراضات وشكوك أخذت تثقل قلبه هما و غما ..
في أثناء ذلك أخذت موجة من نميمة وتكهنات مريبة تفعل فعلها ، منتشرة بشكل سريع حول ظروف وملابسات خروجها ” المشبوه ” ، فأخذت تزداد مع زيادة كثرة عيون جيران هنا وهناك بدأت هي الأخرى تراقبها من خلف نوافذ و أبواب ، ليتحول كل هذا إلى موجات واسعة من قيل وقال وافتراض وتوقعات محمّلة بُشبهات تبصيم وتدغيم على جبين ، على طول و عرض المحلة ..
بينما هي واظبت على عملية خروجها اليومي فجرا كعادتها ، راجعة بنفس كيس متواضع محتوى وخفيف حمل وثقل ، دون أن تتوجس أو تحس بتلك العيون الفضولية التي كانت تراقبها بحب استطلاع وهواجس مستنفرة ، تكاد أن تتحول إلى هوس و استنكار و سخط من سلوكها ” المريب ” حسب اعتقادهم وتوقعاتهم ..
أما هو .. الجار الرجل المتديَّن والمواظب يوميا على الذهاب إلى الجامع في أوقات الصلاة المحددة ، و المواظب في الوقت نفسه أيضا على مراقبة الجارة وهي تذهب و تغيب ، ثم تعود حاملة كيسا فيه أشياء تثير تثير فضولا ، فقد زادت و تكاثفت هواجسه ومشاعره قلقا و اضطرابا لحد ضيق وانزعاج غير قابلين للتحمل بعد ، بحيث وجد أن الوقت قد حان ليطرح الموضوع بين المصلين في الجامع ، بغية حسم مسألة هذه الجارة ــ التي أضحت مشبوهة في نظره ــ وحل المشكلة من خلال طردها من الحي ، وذلك حفاظا على سمعة المنطقة ..
و بالرغم اتفاق معظم المصلين على هذا الأمر، إلا أن أحدهم والذي باتت على أسارير وجهه سمات حكمة وتعقل و روح تسامح ـ فقد اعترض في اللحظة الأخيرة على فكرة الطرد ، طالبا منهم معرفة طبيعة المكان الذي تذهب إليه قبل الحكم عليها بهذه الإطلاقية التامة والقاسية بدون وجود أدلة قاطعة قد تثبت طبيعة الشبهة ..
و بينما كانوا في أعقابها على مسافة بعيدة ، لكي لا تشعر بمتابعتهم لها ، وجدوها تغذ سيرها بخطوات مستعجلة ، أشبه بجري منه بمشي ، وبخطوات سريعة و حثيثة ، و كأنها ستصبح متأخرة عن شيء مهم في حياتها ، حتى رأوها باستغراب و دهشة تصل إلى أحد أطراف المدينة الذي أضحى مكبا لنفايات متراكمة مثل تلال عالية ، ثم إذا بها تخرج من كيسها ثوبا فضاضا و طويلا مهترئا و مبقعّا بلطخات متسخة وكالحة ، لترديه فوق ثوبها النظيف ، لتغوص بعد ذلك ــ مع جمع غفير من مثيلاتها النابشات و المنقبات ــ في وسط تلك أكوام عالية من زبالة و نفايات ذات رائحة كريهة نتنة ، و كانت تفعل ذلك بيدين تتحركان بحثا و تنقيبا و بدراية وخبرة ماهرتين..لكن بهمة شديدة و مثابر عنيدة ..
وكانت تقوم ذلك بتنافس شريف و لكن بحركات سريعة ، و كأنها في سباق شديد مع الوقت ، على أمل فوز بشيء ثمين والعودة سريعا قبل شروق الشمس ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here