طارت النعمة

 سعد تركي

تحوّل جدّي، حجي محمد، بمرور الوقت إلى مصدرٍ دائمٍ للإزعاج، فهو دائم الشكوى والصراخ، ويجعلنا نتسابق لتلبية وصاياه وإزالة أسباب تبرّمه وضيقه من تصرفاتنا وطريقة عيشنا، ومهما حرصنا على عدم إثارة غضبه سيجد سبباً لوصفنا بالاستهتار في التفريط بنعم الله، وأشدّ ما يغيظني منه جملته التي تتكرّر عشرات المرات يومياً: “ولكم الله ولحد راح تطيرون النعمة”.
لا أظنّه بهوسه الدائم، ينام كفايته، وأشعر به كمن نصب عشرات الكاميرات في أرجاء البيت وتتمدد مجساته ومستشعراته إلى نهايات الدربونة.. يبدأ صباحه عادة ونفزّ من النوم على صراخه لأنَّ أمي تركت حنفية الماء مفتوحة، ولا يقتنع بحجتها أنَّ الماطور لن يسحب الماء إذا أغلقت الحنفية، وفي منتصف الليل يصرخ لأننا نسينا إطفاء المصابيح وتركنا التلفزيون في غرفة الاستقبال شغالاً. وبعد كل وجبة طعام يفتش سلّات القمامة فيحتج على حجم الطعام المهدور.
خسرنا بسبب جدّي علاقاتنا مع الجيران الذين برموا من تصرفاته، فبالأمس رأيته يصبّ جام غضبه على “أبو نبيل” لأنه أغرق الشارع بغسيل سيارته، وقبلها تعارك مع صديقي جبار الذي يقضي ساعات نهاره وليله مع الموبايل.. لا نعرف ماذا نفعل مع شايب يدسّ أنفه في كل شيء حتى أنه دخل في مشادة مع “أبو حنين” المسؤول الكبير الحريص على تغيير خارطة وأثاث بيته كلّ ستة أشهر. بكل صراحة لم يعد أبي يصطحبه معنا في زيارة الأقارب لكثرة لومه وتقريعه على كثرة الطعام متجاهلاً أنَّ كثرته دليل على الكرم المتأصل فينا والمحبة التي يكنونها لنا.
قررتُ أن أخبر جدي أنَّ شكواه لا معنى لها وأنَّ النعمة لن تطير لهذه الأسباب التافهة، فأخبرته أنَّ لدينا نهرين عظيمين نسمح بأن تصبّ مياههما في البحر بينما الصحراء تأكل ما تبقى من اخضرار، وشرحت له كيف أنَّ أموال البلد تقاسمها السّراق أمام أعيننا، وأرضه يقضمها جيراننا شبراً بعد شبر، وأحصيت أمامه عدد أحبابنا الذين أماتهم الإهمال والمرض والفقر، وعجزت عن عدّ الأيام والسنوات التي ضاعت من دون سبب أو جدوى وأكوام الفرص لمستقبل آمن وسعيد تبددت من بين أصابعنا.
نظر إلى وجهي، ومسح دموعه بردن دشداشته، وقال بصوت خفيض: “ولكم الله ولحد طارت النعمة”!.
الصباح
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here