كيف يصنع الاسم واقع الإنسان؟

كيف يصنع الاسم واقع الإنسان؟
قراءة في الموروث الثقافي العربي
هايل علي المذابي
أصل الاسم
يرى النحاة أن كلمة “اسم”، ثلاثية الأصل، وأن همزة الوصل فيها بدلاً من لام الكلمة المحذوفة، والأصل (سمو). وهذا رأي البصريين. ويرى الكوفيون أنها بدل من فاء الكلمة المحذوفة، والأصل (وسم). لكن مقارنة اللغات السامية تدل على أن هذه الكلمة مع كلمات أخرى كثيرة، مثل يد، ودم، ذات أصل ثنائي. فكلمة اسم جاءت:
في العبرية: شِمْ shem، وفي الآرامية: شَماَ shma والألف الأخيرة فيها أداة التعريف. وفي الحبشية: سم sem، وفي الأكادية: شمْ shumu؛ وهذه المقارنة تدل على أن ما ذهب إليه النحاة القدامى، لا يمت إلى الصواب، وذلك لجهلهم اللغات السامية.
سلطة الاسم في حكايات ألف ليلة وليلة
تُعتبر الاسماء واختيارها من أصعب ما يواجه الكاتب الروائي والقصصي والمسرحي عموماً، ومثله الناقد الذي قد يضطر أحياناً إلى إغفال مسألة تناول الاسماء أو التعرض لها بالشرح والتحليل والتفسير في النص وعلة اختيارها لعدة أسباب، من ذلك عدم وجود مغزى للكاتب في اختيارها، أي أن هذا الأخير كان عشوائياً، ومنها حقيقة الاسماء وواقعيتها، بيد أن ثمة أعمال أدبية كثيرة كانت صناعة واختيار الاسماء فيها لها حساباتها الخاصة والدقيقة، ولها أهدافها وجذورها التي تضرب في عمق القضايا النفسية والفلسفية للذات الإنسانية، ولعل أكبر تجسيد لهذا ومما نأخذه كنموذج لتوضيح ما نرمي إليه، حكايات “ألف ليلة وليلة ” التي رغم كونها مجهولة الهوية بيد أنّ عظمة هويتها تقترن بالدقة في صنع وحبك التفاصيل الجوهرية للعلاقات الإنسانية، والاحتراف والدقة والبراعة في رسم الشخصيات، والمعرفة العميقة بخبايا النفس البشرية وما تحمله من تناقضات، ولعل مما يدهشنا فيها وهو ما نحن بصدده قضية اختيار “الأسماء” والمهارة في صناعتها لتتوائم مع مقتضى الحال، إذ كانت وفق معايير وقواعد نفسية دقيقة، تُجسّد السلطة التي يمتلكها الاسم وتتحكم في حياة الإنسان وطبيعتها، أيضاً تصف كيف يشارك الاسم في رسم ملامح الشخصية الإنسانية وتشكيل ملامحها في إطار سياق عام ومنظومة تحكي براعة الصانع وخبرة البنّاء في رصف الحجر، وتصف مشاركة الاسم في تشكيل التركيبة السُلطة والفسيولوجية، من ذلك وكمثال شخصية “علي الزئبق”، هذه الشخصية تتصف طيلة الحكايات التي تدور في فلكها وضمنها بصفة الزئبق فيستحيل إمساك علي الزئبق أو القبض عليه، كذلك شخصية ” النحّاس ” والذي يقترن بالنحس طيلة الحكاية وفي أي عمل كان يقوم به، وبالمثل نجد شخصية “باسم الحداد” والتي تدور حكايتها في فلك “الحِداد” وهو حداد الموت “ثلاثة أيام “، أما الاسم الأول “باسم ” فعبر عن القصد من الحداد ويستهل به كقولنا “بسم الله” ولكن بدون التضييق على ألف الوصل، وهذا المعنى للاسم يُجسد المعنى الإجمالي من الحكاية وفلك موضوعها، فباسم الذي كان عاملاً على باب الله، ليس له أُسرة يُعيلها، كان يخرج من مسكنه صباحاً لكسب ما يحتاجه في سبيل إحياء ليلته، إلى أن يزوره أمير البلاد ووزيره متنكرين بعد أن يُغريهما مشهد مسكنه إذ كان مبعث خروجهما بهذه الأزياء وهذا التنكر البحث عن المتعة واللهو والأنس والمؤانسة، فيأتي مشهد مسكنه بنوافذه المشرعة التي ينبعث منها الضوء، وصوته الذي يُدندن بهِ، فيُشاركاه أمسيته، ويأخذ هو في وصف طريقة عيشته لهما، والتي يستسيغها الأمير ويروقه الالتفات إليها، لغرابتها وسذاجتها والطرفة التي تضج بها، يتبسم الأمير من ثمّ وقد راقه الأمر وانتابته رغبة عارمة في كسب شيءٍ من المتعة مع باسم المسكين الذي لم يعلم ما دار بخلد الأمير وما خبئه له القدر..!
في صباح اليوم التالي يذهب باسم ليعمل كعادته، لكنه يفاجأ بالفرمان الحدادي الذي أعلنه الأمير في الجهة التي يكسب رزقهُ منها، ولأن باسم رجلٌ صلب فقد بدّل مهنته بكفاح، وبنفس الطريقة يكسب رزقهُ ويقول “سأُحيي ليلتي”، ثم يعود إلى مسكنهِ ليُحيي ليلته، ويزوره الأمير ووزيره متنكرين كما الليلة الفائتة، ويشاركاه أمسيته، ويسترسلا في الحديث معه، ويستدرجانهِ من حيث لا يدري ولا يحسب له حساباً، فيفصح لهما عما فعله في ذلك اليوم وعن المهنة التي كسب منها رزقهُ، وبنفس المنوال يخرج في صباح اليوم التالي إلى مهنته الجديدة بيد أنه يُفاجأ بفرمانٍ حدادي جديد في هذه المهنة الجديدة، ويضطر بكفاح إلى البحث عن مهنة جديدة في سبيل كسب ما يحتاجه لإحياء ليلته… وهكذا تستمر الحكاية حتى يصل الأمر بباسم جراء الفرمانات الحدادية المتتابعة إلى الانضمام إلى صفوف عاملي البلاط وحرسه، والتي تجعل الأمير يضحك من أعماقهِ كما تجعله يعجب بشدة بكفاح باسم وصلابة عزيمته وعدم يأسه فيكافئهُ بسخاء ويُجزلهُ العطاء…وتنتهي الحكاية…
من ذلك نكتشف أن السلطة التي كانت تتحكم في مسار الحكاية هذه والحكايات جميعاً في ألف ليلة وليلة وما دار في فلكها والطبيعة الجوهرية للشخصيات أيضاً كلها كانت مرهونة بالاسم وسُلطته، ولعل أهم النظريات التي تتناول هذه التقنية بدقة نظريات نشأة اللغة للعالم العربي أبو الفتح عثمان بن جني التي أوردها في كتابه الخصائص وأفرد لها بابين الأول “تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني” والآخر “إمساس الألفاظ أشباه المعاني”، كذلك نجد هذا النوع من التقنيات ضمن ما ميزه ريفاتير من أنماط الاشتقاق المزدوج الخاص بالأسماء والعناوين وتقنيتها كما في كتاب “قراءة في قصيدة النثر” لسوزان برناد ويعددها:
1- اشتقاق صريح، ولكنه يُرد ضمنياً إلى اشتقاق آخر، يُثير مراجع صورية، ومعانٍ ضمنية توحيها الكلمة، لا وجود لها في النص، بتعبير أدق” عنوان النص يشير إلى غير ما يحتويه النص”.
2- يمكن وضع اشتقاقين معاً في النص ولكنهما متنافران دلالياً إلى حدٍ ما ومثال ذلك نص “سطوع القمر” لكلوديل الذي عالج موضوعاً هو القمر مع أخبار خاصة بالشمس.
3- اشتقاقان حاضران في النص- في الوقت ذاته- يتناقضان على الصعيد الأسلوبي.
– ومن الأعمال الأدبية والروائية العالمية التي تجسد هذه الفكرة “رواية الجبل الخامس” للروائي البرازيلي “باولو كويلو” الذي يشتهر باستغراقهِ العميق في ثقافة الشرق وروحانياته، مستلهماً منها موضوعات رواياته غائصاً في سراديب النفس البشرية، محاولاً إعطائها بعدها الحضاري ورابطاً لها بمتغيرات العصر وتقنياته ومتطلباته، كما يتجسد هذا في روايته ” الخيميائي ” و”حاج كومبوستيلا” و “الظاهر” وغيرها، وفي رواية ” الجبل الخامس” تطرق كويلو في تفاصيل الجزئية ما قبل الأخيرة تحديداً وهو من أكثر ما يُثير الإعجاب عندما يشرع بطل الرواية في بناء المدينة المدمرة من الأعداء الغزاة وعندما تصبح المدينة مجرد أطلال وخرائب فيشرع بطل الرواية إلى إعادة إعمارها مع من تبقى معه من الأطفال والنساء والشيوخ ومحاولةً منه لبث روح الحماس في قلوب تلك الثلة الباقية من أجل الثبات من اجل حبهم للمدينة، فيكون طلبه إليهم بأن يكتشف كل فردٍ منهم في نفسه اسماً يتسمى بهِ غير حروف اسمه المدونة في شهادة ميلاده المسمى بها من قبل والديه، يتصف بخروجه عن نطاق الحياة التقليدية الرتيبة ومن ثم يصبح هدفاً بحد ذاته يتجاوز به الفرد مرحلة اليأس والإحباط ويعبر به عن طموحه ويثبت من خلاله كينونته ووجوده كعنصر فاعل في هذه الحياة وأيضاً استحقاقه وجدارته لأن يعيشها، كما أّنه يُعرِّف بوظيفتهِ الأساسية في الحياة ويصف خطته بها وبرنامجه وأفكاره وتطلعاته فيها، وإيجاد ذاته من خلال موهبة أو علم أو حرفة تمضي بحياته قدماً في ركب الحضارة والبناء والمعامرة، متحدّياً بهذا الاسم كل صعوبة قد تواجهه وكل معيق ما يمنحه الاستمرار في السير على الدرب والمنهج الذي اختاره له هذا الاسم الذي اكتشفه بأعماقه..!!
كذلك نجد في رواية “من أنت أيها الملاك” للأديب والروائي العربي الكبير ” إبراهيم الكوني” والصادرة عن مجلة دبي الثقافية، ما يتمثل الفكرة النفسية والفلسفية وأبعادها المحمولة على أكف الشقاء والإضناء في رحلة البحث عن الاسم وسلطته برمزية تحيلنا إلى العوالم التي تختزل ذلك الصراع القائم بين الأجيال وحكاية الصراع الأبدية بينها وبين الحاضر والماضي والمستقبل.
وقد اهتدى الطب النفسي الحديث إلى أن يلتزم في تحليلاته للحالات التي يُعالجها ويتناول طبيعة تركيبتها النفسية والفسيولوجية بالدراسة والبحث والتنقيب عن “الاسم” أولا كمحور رئيسي ينطلق منه، والفكرة في الأساس قديمة والتزامه هذا قد يكون متأخراً نوعاً ما، فالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وفي المفاوضات التي تجري بينه وبين قريش في “صلح الحديبية” وبعد فشل الوفد الأول والوفد الثاني من وفود قريش في الوصول إلى حل، يأتي الوفد الثالث بزعامة سهيل بن عمر” وبمجرد رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام له قادماً حتى يقول لأصحابه:” سهل الله أمركم”، وينتهى مسير النبي عليه الصلاة والسلام إلى بين جبلين فيسأل عن اسمهما فيقال له” مخزٍ وفاضح”، فيعدل عن المشي بينهما. وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: “ما اسمك؟”، قلت: حزن “والحزونة” هي “الغلظة” فقال عليه الصلاة والسلام “بل أنت سهل” قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي..!!، قال سعيد بن المسيب: فما زالت تلك الحزونة فينا!.
وأُتي النبي عليه الصلاة والسلام بغلام فقال: “ما سميتم هذا؟” قالوا: سميناه السائب”! فقال عليه الصلاة والسلام: “لا تسموه السائب ولكن عبد الله” قال فغلبوا على اسمه – أي على اسم السائب – فلم يمت حتى ذهب عقلهُ، رواه الترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام:” أسلم سلمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ” رواه مسلم، وعندما نزل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء، سأل عن اسمها، فقيل له ” كربلاء” فقال:” كربٌ وبلاء”. فكان مثلما قال رضي الله عنه..!
وقال عوانة بن الحكم: لما دُعي عبد الله بن الزبير إلى نفسه قام عبد الله بن مطيع ليبايع فقبض عبد الله يده حتى قام أخوه مصعب فبايعه، فقال الناس: أبى أن يبايع ابن مطيع وبايع مصعباً، ليجدنّ في أمرهِ صعوبة فكان كما قالوا..!. وفي حرب الحجاج بن يوسف لابن الأشعث نزل الحجاج في “دير قرة” ونزل عبد الرحمن بن الأشعث في ” دير الجماجم” فقال الحجاج: استقر الأمر في يدي وتجمجم به أمره، والله لأقتلنه. فكان مثلما قال.
وقد غير مجيئ الإسلام مفاهيم وأسماء كثيرة بدعوى المعاني الفاسدة والصفات الذميمة والقبيحة التي تحملها، كما يذكر ذلك أحمد بن فارس في كتابه “الصاحبي في اللغة”، ومن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام غير اسم “شهاب” إلى “هشام”، وسمى ” حرباً ” سلماً”، وسمى ” المضطجع” “المنبعث”، و”عاصية” بـ”جميلة”، وأصرم ” بــ “زرعة”، وغير اسم أرض “عفرة” بــ ” خضرة” و” شعب الضلالة” بــ” شعب الهداية ” و”بنو الزنية” بــ”بنو الرشدة” وغير اسم ” العاص” و”عزير” و”غفلة ” و”شيطان” و”الحكم” و”غراب” !..وغير ذلك كثير..
أما أبعاد كل هذا حول الاسم فهو يحثنا -على صعيد الحياة أو على صعيد النتاج الأدبي والفني- على التروي والتفكير المستفيض قبل اختيار الاسم وتسمية المسمى، كما يحدد ما علينا من مهام تبعاً لما تعنيه اسماؤنا، وما أحوجنا إلى أسماء تحدد الرغبة الجوهرية والطموح الذي يسكننا ونرغب ونسعى إلى تحقيقه وتعبر عن الإرادة التي نسعى إلى الإمساك بزمامها لتحقيق كينونتنا، وإثبات وجودنا، والقاعدة قياسية مطردة بيد أن لها شذوذها شأنها شأن أي قاعدة أخرى، لذلك فالتعميم بشـأنها سيكون مجحفاً وجائراً، وغير منصف أيضاً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here