تركيا : أمن استراتيجي وأطماع..!

تواصل تركيا عملياتها العسكرية الجوية والبرية العدائية داخل الأراضي العراقية بذريعة مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني التركي، متجاهلةً ردود الفعل العراقية الغاضبة ، الرسمية والشعبية.
وتسعى تركيا بالاصرار على تكرار هذه العمليات، تكريس نفوذها في العراق، بالإعتماد المتزايد على قدراتها العسكرية لتحقيق أهدافها وذلك من خلال تعزيز تواجها العسكري المباشر في إقليم كوردستان، وهي في الوقت نفسه تعكس تعكس طبيعة التنافس والصراع الجاري على الأرض بين مختلف اللاعبين (الدول والجماعات المسلحة غير الحكومية)، وهو صراع أكدت تركيا ضعفها فيه من خلال الدبلوماسية والقوة الناعمة حصرًا.
   مما تكرره تركيا ، إنها وبحجة محاربة الارهاب ، تحمي وحدة الأراضي العراقية ، وانها تعمل من أجل السلام والاستقرار في المنطقة، وليس لديها أطماع بأراضي العراق، مشددة على  استمرار العملية العسكرية التي أطلق عليها (المخلب) ضد حزب العمال في مناطق متعددة شمال العراق.
   هذا ما تحدث عنه في الآونة الأخيرة وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو  ، وكرر المعنى وزير الدفاع خلوصي اكار، الذي قال في كلمة له بولاية بورصة “إن العمليات العسكرية ستتواصل حتى تحييد آخر إرهابي، مع مراعاة احترام سيادة ووحدة أراضي دول الجوار”، مشيرًا إلى إن “إطلاق العملية العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني شمالي العراق يمنع الممر الإرهابي المقرر إقامته على الحدود الجنوبية لتركيا، اذ انه لو لم تطلق تركيا عملية “المخلب- القفل” لكانت البلاد والمنطقة ستواجهان تهديدات ومخاطر أكبر في المستقبل”.
وبالرغم من أن العمليات العسكرية ليست عاملًا طارئًا على المعادلة التركية في العراق، وتعود إلى حقبة الثمانينات في زمن النظام السابق، إلا أنها تصاعدت مع تقدم الوقت، باستغلال التطورات السياسية والأمنية في العراق بعد العام 2003 تحديداً. ففي العام 1983 إبَّان الحرب العبثية المجنونة التي شنها صدام على الجمهورية الاسلامية ، سمح اتفاق بين أنقرة وبغداد للقوات التركية بالتوغل داخل الأراضي العراقية لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني.  وازداد الدور العسكري التركي في فترة التسعينات وهذه المرة بحجة أمنية أخرى هي احتواء موجات النزوح من شمال العراق. وقد نفذت أنقرة عمليات عسكرية داخل  العراق عامي 1992 و 1995.
وتحت هذه الذريعة أي “التهديدات الأمنية القادمة من شمال العراق “، نشرت تركيا قواتها داخل الأراضي العراقية عامي 1996 و1997، وهو العام الذي نفذت فيه عمليتين عسكريتين استهدفتا  “حزب العمال الكردستاني” ، لكن الوجود التركي وجد له موطأ قدم داخل الأراضي العراقية ، و كان ذلك يتم تحت إطار عمليات حفظ الأمن والسلام في المنطقة . ومنذ ذلك الوقت، أصبحت القوات التركية موجودة داخل الأراضي العراقية ، وأنشأت لها قواعد ثابتة وهي تقوم بتغيير حجم ودور هذه القوات تبعًا للظروف التي يمر بها العراق من جهة و معادلات المنطقة التي تتركها هذه الظروف.
استغلت تركيا فترة الحديث عن استعداد مزعوم لانسحاب القوات الأميركية في العراق، فاستأنفت عملياتها العسكرية في شمال العراق، وهذه المرة  تزعم أنقرة ، وتصمت بغداد ، أنهما توصلتا في العام 2007 إلى اتفاق يتضمن السماح للجيش التركي بملاحقة عناصر “حزب العمال الكردستاني” في شمال العراق بإذن من الحكومة العراقية. تضمن الاتفاق الذي تغض الحكومة العراقية الطرف عنه أيضًا فتح مكتبي ارتباط لتبادل المعلومات الاستخباراتية والأمنية بين البلدين ، لكن مع تغيير مهام القوات الأميركية على الورق ، وبحجة الخشية من وقوع  العراق تحت سيطرة النفوذ الإيراني ، تزايد الوجود العسكري التركي .
بعد دخول داعش تحديدًا، شاركت أنقرة فيما يسمى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وأُوكِل إلى القوات التركية مهمة تدريب قوات البشمركة وتدريب قوات “الحشد الوطني” التي يشرف عليها محافظ الموصل السابق، أثيل النجيفي . ومع تقدم قوات الحشد الشعبي باتجاه الشمال بعد تحرير تكريت والفلوجة ومدن المنطقة الغربية كلها ، انتهكت أنقرة مرة أخرى السيادة العراقية وعمدت الى تثبيت وجودها العسكري وما يؤدي ذلك إلى تغييرات ديمغرافية في الموصل وإلى ازدياد التهديدات الأمنية التي يواجهها العراق.
تكشف تصريحات المسؤولين الأتراك عن وجود أكثر من  30 قاعدة وثكنة ومركز تدريب تابع لتركيا داخل الأراضي العراقية وعلى طول الشريط الحدودي بالاضافة الى قواعد استخباراتية، تضم حوالي 3 آلاف جندي تركي. وتأمل انقرة زيادة عدد القواعد هناك منتهكة السيادة العراقية وفي عدوانية مفضوحة ،وهي تتجاهل التحذيرات التي صدرت من حكومتي الاقليم والاتحادية (لذر الرماد في العيون)  بشأن العمليات العسكرية التركية إذ نفذت تركيا نحو 1000 هجوم عسكري عدائي في شمالي العراق منذ 4 أعوام.
عموما،  يشكِّل الوجود العسكري التركي اليوم في العراق رأس حربة متقدمة لفرض معادلة نفوذ جديدة لصالح أنقرة في ضوء مايجري في المنطقة والعالم بحجة صد التهديدات العسكرية والأمنية القادمة.و يلعب الوجود العسكري التركي دورًا  خطرا، في زعزعة التوازن الجيو-أمني والجيو-سياسي داخل العراق وخارجه، كما أنه يخدم  المصالح الاقتصادية التي تسعى أنقرة إلى تعاظمها ليس على مستوى إقليم كوردستان فحسب بل على مستوى العراق كله .
حتى الآن، نجحت أنقرة في فرض تواجد  قواتها داخل العراق ، لكن في ظل غياب ضمانة سياسية، وغياب توافق حول شكل الحكومة المقبلة والعناصر المشاركة فيها ، تسعى تركيا إلى تقنين وجودها العسكري من خلال اتفاقيات مع الحكومة في بغداد ، وهذا ما تحاول فعله الآن.
   وبلا أدنى شك، فإن سياسات تركيا السلبية – سياسيًا وأمنيًا ومائيًا واقتصاديًا – ضد العراق لن تتوقف ما دام الحديث عن الحكومة الجديدة يبقى مرتبكاً ، ولن تقدم بيانات الادانات والاستنكارات شيئًا، ما لم تكن مقرونة بأفعال وخطوات عملية رادعة ومؤثرة، وهذا لن يتحقق ما دامت المواقف والتوجهات متشابكة، والمصالح متقاطعة، والارادات غائبة أو مغيبة، والحكومة الوطنية القوية ليست في متناول اليد.
لمتابعة نجاح محمد علي على تويتر @najahmalii
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here