عقدة “كراهية الذات” كما شرحها إبراهيم فانون.. لماذا نخون الأوطان والأصدقاء؟

ضياء سعد عبدالله

في عام 1955 أنتج الأمريكيون فيلم الدراما العاطفية (Marty)، يحكي الفيلم حياة شاب أمريكي من أصل إيطالي اسمه مارتي، يعمل بمهنة الجزارة، بلغ منتصف العمر بلا حب أو زواج ودون أن يجد امرأة تقبله لكونه “سمينًا قبيح الوجه” كما يرى في نفسه. فيجلس في إحدى المشاهد إلى طاولة العشاء مع أمه الأرملة التي يعيش معها لوحدهما لأن جميع إخوته تزوجوا، يندب حظه ويتأسف لحاله ويخبر والدته أنه لا يملك ما تحبه النساء ويرى أنه قبيح وسمين بلا جمال ولا جسم جذاب ولا مال ويقضي وقته يقارن نفسه مع إخوته والآخرين (فالجميع سعيد ومرتبط إلا أنا). بغض النظر عن البعد العاطفي لشخصية مارتي الذي نال الممثل (ارنست بورجنين) جائزة الأوسكار نظير تمثيلها فهو يعتبر حالة مثالية لشخص يكره نفسه، وهو ليس الوحيد فهناك الملايين مثله في هذا العالم.
عاش في الجزائر طبيب أعصاب معروف، ذو بشرة سوداء، يُدعى (فرانس فانون) جاء من بلاد جزر المارتينيك الواقعة في بحر الكاريبي، شغل منصب رئيس الأطباء في مستشفى الأمراض النفسية بمدينة البليدة أثناء الاستعمار الفرنسي، لكنه سرعان ما التحق بالثورة الجزائرية متخليا عن فرنسيته، فعمل مع الخلايا الثورية على الحدود الشرقية في تونس. خلال هذه الفترة سعى فانون إلى دراسة علاقة المستعمِر والمستعمَر وكذا تأثير الاستعمار على الإنسان صاحب الأرض، وعمد إلى محاولة تفسير ظاهرة تقديس المستعمر من طرف (الخونة) و(العملاء) الذين أدهشه كرههم للجزائريين من أبناء شعبهم رغم أنهم ولدوا وتربوا معهم، فحاول تشريح كل هذا من ناحية طبية نفسية مستغلا عمله وكفاءته في ذلك وانتهى الأمر بإصدار كتابه الشهير (معذبو الأرض) – Les débiles de la terre- سنة 1961 واضعا فيه بالتفصيل ما توصل إليه.
يتصف كارهو الذات بالتغيير المفاجئ والمستمر لمزاجهم وشخصياتهم السطحية، كما أن بعضهم يلجأ إلى اخفاء مداخلهم عن طريق الاهتمام بالمظهر الخارجي وقد ينجحون في مسارهم العلمي والعملي
اهتدى فرانس فانون بعد دراسته الميدانية والنظرية إلى تفسير ما يحدث داخل عقول الخائنين والعملاء -وفي عقول من هم مثل مارتي أيضا- عن طريق ما أسماه بـ(كراهية الذات) -La haine de Soi- باعتبارها متلازمة نفسية تنشأ في عقل الفرد نتيجة عوامل متداخلة فتنتهي بغرس فكرة كره الإنسان لنفسه. يقول فرانس فانون: كراهية الذات ينتج عنها مع الوقت كراهية الآخر، فالأشخاص الذين ينظرون لأنفسهم بدونية وعدم ثقة لا يستطيعون بطبيعة الحال أن يحبوا الآخرين بناء على مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه، فيلجؤون -كنوع من الانتقام- إلى محاولة نقل ما يوجد كينونتهم إلى العالم الخارجي وتصدير كراهيتهم للآخرين، وهنا تبدأ سلوكات الخيانة والاحتقار والنقد اللاذع والكراهية المفرطة والحسد وما إلى ذلك من سلوكات عدائية مختلفة ومتفاوتة الضرر كرد فعل نفسي على معاناة الفرد داخليا مثلما يقول إريك ماريا ريمارك: الكراهية هي أحد أنواع الحوامض التي تتلف النفس، ولا يفرق هذا الحامض بين كره النفس لذاتها أو كره الآخرين لها.
تنتج كراهية الذات من أسباب كثيرة تتجمع كلها أو بعضها في الشخص منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، التنشئة العائلية غير السوية، غياب الثقة في النفس الناتج عن خلل في تكوين شخصية الفرد منذ الطفولة والنقد اللاذع الذي يتلقاه باستمرار في عائلته ومحيطه، التجاوب السلبي مع المواقف السلبية التي يتعرض لها الإنسان أثناء حياته، الفشل المستمر في العلاقات الإجتماعية، التركيز المفرط على ردود الفعل اللاذعة اتجاه سلوكياته وأقواله، الشعور الدائم بالوحدة، الخجل والقلق الإجتماعي، اعتقاد الشخص باستحقاقه الذي لم يتحصل عليه، كل هذه الأشياء تجعله يعتقد بأن الآخرين يمقتونه وينبذونه ويحمل انطباعا بكونه أدنى من الآخرين على جميع الأصعدة فينتهي الأمر بإيمان الشخص بأنه عار دائم ويتولد عنده مركب النقص اتجاه نفسه. فيلجأ الإنسان في النهاية إلى الانعزال التام الاضطراري عن الآخرين، ثم إن الألم المتولد داخله عن ذاته يجعله يؤمن بتأثير الآخر عليه فلا يكره المريض ذاته فقط، بل يكره الآخر أيضا باعتباره سببا ونتيجة في عقدة (كراهية الذات) فيهاجم الآخر ليدافع عن نفسه.
إن كارهي ذواتهم ليسوا أولئك الخونة الذين يبيعون بلدانهم فقط، بل إنهم يحيطون بنا من كل جانب في كل زمان ومكان وأغلب الظن أنك تعاملت ولو لمرة واحدة في حياتك مع واحد منهم، قد يكون كاره الذات أبوك أو أمك، قد يكون أحد أقاربك أو أصدقائك، قد يكون معلما مع تلاميذه أو أستاذا مع طلابه، قد يكون مديرا مع موظفيه أو رئيسا مع مرؤوسيه، قد يكون أديبا مع قرائه أو طبيبا مع مرضاه، فكاره الذات قد يمتهن أي عمل لأنها لا تشمل أراذل القوم بالضرورة بل حتى أفضالهم. إنه ذلك الإنسان الذي يتنكر لأهله وعائلته ويرفض مساعدة الآخرين، ينتقد كل ما تتطلع عليه عينه ويعجبها، يحطم أحلام كل شخص يراه ناجحا، يقزم انجازات الآخرين مهما بلغ حجمها، يلقي باللوم على الناس ويتهمهم بالغباء المطلق والنية السيئة ويشكك على الدوام في غايات وأهداف الناس، إنه شخص يرفض الإنتماء إلى أي شيء ويرفض المشاركة في كل شيء لا لشيء سوى لكونه يحتقر كل ما هو قادم من الآخر لأن هدفه الأساسي هو كره الآخر وتدميره.
يتصف كارهو الذات بالتغيير المفاجئ والمستمر لمزاجهم وشخصياتهم السطحية، كما أن بعضهم يلجأ إلى اخفاء مداخلهم عن طريق الاهتمام بالمظهر الخارجي وقد ينجحون في مسارهم العلمي والعملي لكن ذلك دون ترقية حقيقية في طباع شخصياتهم وطريقة تفكيرهم اتجاه الآخرين وقد يمتلك البعض منهم مواهب معينة لكنهم لا يعبأون بها ويرونها أشياء عادية في نظرهم. يحاول كارهو الذات بكل ما يملكونه من قوة تثبيط العالم الخارجي وممارسة أنانيتهم وساديتهم على الناس فيحسدون وينتقدون وينهرون ويتنمرون، في حدود ما يستطيعون، في سبيل نقل عقدهم الداخلية إلى الخارج لكونهم لا يرضون بأن يعيشوا لوحدهم ألم الكره والكراهية بل لا بد من مشاركة ذلك مع الأخرين وأظنه الشيء الوحيد الذي يريدون مشاركته معهم فعلا. وقد يعجز هؤلاء على التأثير في الآخرين لوحدهم وهنا سيتوجهون إلى الجهة الأقوى منهم والتي تخدم مصالحهم ضد من يستهدفون فيقع كارهو الذات في فخ تقديس القوي ضد الضعيف وهذا ما فعله ويفعله فئة من الناس ضد شعوبهم مع الاحتلال على مر تاريخ الحركات التحررية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here