اشارات السيد محمد حسين فضل الله قدس سره عن الحج والقرآن الكريم (ح 1)

الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب تفسير القرآن الكريم للسيد محمد حسين فضل الله قدس سره: قال الله تبارك وتعالى “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” (الحج 25) جاء في كتاب تفسير القرآن الكريم للسيد محمد حسين فضل الله قدس سره: معاني المفردات: وَيَصُدُّونَ : يمنعون. الْعَـاكِفُ: المقيم الملازم للمكان. وَالْبَادِ، البادي: يقال للمقيم في البادية بادٍ، والمراد بالبادي في الآية: الآتي إلى المسجد الحرام من الخارج. بِإِلْحَادٍ، الإلحاد: الميل عن الخط المستقيم. جزاء الصدّ عن البيت الحرام: انطلقت دعوة الله في مكة؛ البلد الذي جعله حرماً آمناً يأوي إليه الناس من كل مكان ليعبدوه في المسجد الحرام، حيث يصلّون ويطوفون بالبيت الحرام. ولكن أهل مكة، الذين كانوا يتخذون الشرك قاعدة لتفكيرهم ولعبادتهم ونهجاً في حياتهم، واجهوا هذه الدعوة الجديدة بكل أساليب التعسف والتمرّد والضغط والنكران. وجاءت هذه الآية لتحدّد لنا طبيعة هذه المواجهة، وما أعدّه الله لهم في الدار الآخرة. “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ” (الحج 25) من خلال اتّباعهم الشرك، وإصرارهم عليه، ورفضهم لكل البيّنات التي قدّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في كتاب الله وفي حديثه، واستمرارهم على عبادة الأصنام. “وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ” (الحج 25) فلم يكتفوا بالكفر الإشراكيّ في تفكيرهم وسلوكهم، بل عملوا على الوقوف ضد كل من يريدون الدخول في الإسلام ويتحركون في سبيل الوصول إلى الحق، الذي يبلغ بهم رضوان الله ورحمته، فكانوا يلاحقون المؤمنين ليعذبوهم، وليشرّدوهم، ويمنعون الذين يحبون الإيمان أن يدخلوا فيه بالضغوط الصعبة القاسية التي يوجهونها إليهم “وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذي جَعَلْنَـاهُ لِلنَّاسِ” (الحج 25) لا فرق فيه بين فردٍ وآخر أو بين جماعةٍ وأخرى ممن يؤمن بالله ويريد أن يعبده فيه، أو ممن يريد أن يدخله ليؤمن بالإسلام، فهو بيت الله الذي أراده للناس كافة، “سَوَآءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ” (الحج 25)، فالمقيم فيه والآتي من الخارج إليه سيّان، لا يملك من يقيم في مكة منع القادم إليها من دخول المسجد، لأن خالق الأرض ومالكها هو من يملك إعطاء الإذن بالمنع والدخول من موقع خلقه له، “وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ” (الحج 25) ويميل عن الخط المستقيم، وذلك بالقيام بأيّ عملٍ يعيق وصول الناس إليه، ويضرّ بحياتهم في داخله، عبر استخدام ما يملكه من قوّة تمكّنه من مواجهة حالات الضعف التي تحيط بالآخرين من المقيمين به أو الداخلين إليه، بِظُلْمٍ أي بدون حق، فإن ذلك ليس من حقه مهما قدم لتصرفه من مبررات وأعذار، لأن للناس حرية الدخول إلى الكعبة التي تمثل بيت الله، فيحجون إليها، ويعبدونه فيها، ولم يجعل لأحد سلطة منع الناس من ذلك، إلا في نطاق حمايتهم من الخطر وحمايتها من الضغط القاسي، فمن أراد ذلك بدون حق “نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ” (الحج 25) جزاءً له على تمرده وعصيانه وظلمه، تماماً كالكافرين والصادّين عن سبيل الله.

إن اختلاف المفسرين في بعض مفردات الاية، ربما استوحينا من ذلك أن الله أعطى الناس المؤمنين حرية الدخول إلى المسجد الحرام وممارسة العبادة الصحيحة فيه، دون أن يكون لأي أحد سلطة منعهم من هذا الحق، إلا في نطاق النظام العام. وهذا يجعلنا نرفض ما استحدثه حكام تلك البلاد من قوانين تمنع الدخول إليها لأداء فريضة الحج والعمرة إلا بإذن منهم، وحسب شروطهم، مما يتنافى وأجواء هذه الآية. وقد نستوحي من قوله تعالى: “سَوَآءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد” (الحج 25) أن للناس جميعاً الحقّ في مكة، فلا يملك أحد أن يمنع الناس من الإقامة فيها، أو يمنح نفسه حق تملّك موقعٍ فيها أو دائرةٍ معيّنة، لأن الله قد ساوى بين المقيم فيها والخارج منها، لأن الظاهر كما يقال أن المراد من المسجد الحرام، هو مكة كلها، كما يظهر ذلك من قوله تعالى في سورة الإسراء “سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى” (الاسراء 1) حيث ذكرت أن النبي قد أسري به من المسجد الحرام في الوقت الذي كان الإسراء فيه من دار أم هاني في داخل مكة. وقد جاء في التهذيب للشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله جعفر الصادق عليه السلام هذه الآية: “سواء الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ” (الحج 25) فقال: كانت مكة ليس على شيءٍ منها باب، وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئاً من الدور ومنازلها. وقد ذهب إلى ذلك جمع من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير، ومن مذهب هؤلاء في ما نقله الفخر الرازي في تفسيره (أن كراء دور مكة وبيعها حرام، واحتجوا عليه بالآية والخبر، أما الآية فهي هذه، قالوا: إن ارض مكة لا تُملّك، فإنها لو مُلِّكت لم يستو العاكف فيها والبادي، فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد، وأما الخبر فقولهعليه السلام: مكة مباح لمن سبق إليها). وهناك قول آخر نقله الرازي أيضاً، فقال: (إن المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء، ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس. قال عليه السلام: يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعنّ أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أيّة ساعةٍ من ليلٍ أو نهار). وقد اختلفوا في المراد من الإلحاد فيه؛ هل هو خصوص المنع عن الدخول فيه، أو بعض الأشياء الأخرى، كالمنع من عمارته، أو الشرك أو نحو ذلك، أو هو الأعم من ذلك، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فيما رواه أبو الصباح الكناني عنه: (كل ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكة، من سرقةٍ أو ظلم أحدٍ، أو شيء من الظلم، فإني أراه إلحاداً، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم)، وفي رواية يتقي بدل ينهى. وقد ذكر الفخر الرازي في وجه تعلق كلمة الإلحاد بالظلم أنه (لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر، بيَّن الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد، لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهي ظلم، ولذلك قال تعالى: “إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ” (لقمان 13)).

قال الله جل جلاله “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ” (الحج 26-28) معاني المفردات: بَوَّأْنَا: بوّأ له مكاناً: أي جعل له مرجعاً يرجع إليه ويقصده. رِجَالاً: راجلين. فَجٍّ: طريق. عَميِقٍ: بعيد. تَفَثَهُم: التفث: قال في المجمع: (قال الأزهري: لا يعرف التفث في لغة العرب إلاّ من قول ابن عباس وأهل التفسير، وقال النضر بن شميل: هو إذهاب الشعث). وجاء في الميزان: (التفث: شعث البدن، وقضاء التفث: إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار وأخذ الشعر ونحو ذلك، وهو كناية عن الخروج من الإحرام). وقضى الشيء يقضي: إذا قطعه وأزاله. حُرُمَاتِ: جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه. حُنَفَآءَ: جمع حنيف، وهو من استقام على دين الحق مائلاً عن الأديان الباطلة. سَحِيقٍ: بعيد. شَعَـائِرَ: جمع شعيرة، وهي العلامة، وشعائر الله هي الأعلام التي نصبها الله لطاعته. الْمُخْبِتِين: الإخبات: الخضوع والطمأنينة، وقوله: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصاً فهو من المخبتين، وقد فسره بقوله: “الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمي الصّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الحج 35) كما يقول صاحب الميزان. وَالْبُدْنَ: جمع بَدَنَة، وهي الناقة السمينة، من بدن بدناً: إذا كثر لحمه. صَوَآفَّ: مصطفّة قد صفّت أيديها وأرجلها عند النحر. وَجَبَتْ جُنُوبُهَا: سقطت على الأرض على جنوبها، وهو كناية عن موتها. القانع: الراضي، أو الفقير الذي يقنع بما أعطي، سواء سأل أو لا. وَالْمُعْتَرَّ: الذي يتعرض لك لتعطيه.

الحج عبادة منفتحة على الله: لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وخصوصيته، ولم يأت بناؤه تلبية لرغبةٍ ذاتيةٍ في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة، بل جاء نتيجة أمر من الله، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا المسجد ليكون بيتاً له ـ تعالى ـ على مستوى العالم كله، ليفِد إليه الناس من كل بقاع الأرض تلبية لدعوته الشاملة، من أجل تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية، المادية والمعنوية.. ولينطلق الناس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوعة التي شرعها لهم في رحابه وأجوائه، ليخلصوا له العبادة من موقع التوحيد، ولينفتحوا على عمق التوحيد في صفائه ونقائه، في ما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرك فيه أوضاعهم، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، من خطٍّ يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ الناس إلا من خلاله، ولا يلتقي بخصوصيات الحياة إلا في دائرة رضاه. وهكذا كان الحجّ هو العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة، والمرتكزة على أكثر من قاعدةٍ للحركة، والقريبة إلى الجانب العملي في الحياة، في ما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع، وهذا ما نحاول استيحاءه من خلال الآيات التالية. يا إبراهيم، طهّر بيتي: “وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ” (الحج 26) فحدّد الله له موقعاً وأراده أن يجعله مرجعاً يقصده الناس في رحلتهم إليه ـ تعالى ـ للعبادة، وأن يعدّه إعداداً كاملاً لتحقيق النتائج الروحية التي يريدها الله من حركة العبادة في ساحاته، وأوحى إليه أن يؤكد على صفة التوحيد فيه؛ من حيث الشكل، بإعطائه صورة بعيدة عن عبادة الأوثان التي توجد في أماكن العبادة عادة ويتعبد لها الناس لتقرّبهم إلى الله زلفى، ومن حيث المضمون، في ما يثيره معنى التوحيد من أفكار ومشاعر وآفاق روحية في عمق الذات، وفي امتداد الحركة، ومن حيث شخصية الإنسان الذي يبني المسجد ويرعاه في ما يستهدفه منه، وفي ما يركّزه عليه من أسس البناء، ولهذا جاء النداء الإلهي لإبراهيم عليه السلام، ليختصر ذلك كله في قوله: “أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً” (الحج 26) بما يعنيه ذلك من إقامة قواعد المسجد كلها على أساس التوحيد، الذي هو سر وجوده، وهدف العبادة فيه التي تجمع الحياة والإنسان لتقودهما إلى وعي العبودية الخالصة لله، “وَطَهِّرْ بَيْتِي” (الحج 26) طهارة كاملة بمعناها المادي الذي يستدعي النظافة من كل قذارة تسيء إلى جوّ التحليق في آفاق الطهارة الروحية التي تختزنها روحية العبادة وتخلقها داخل الإنسان، فإن الإسلام ـ في كثير من تشريعاته ـ يبتعد عن التجريد، ويعمل على إطلاق المعاني الروحية من حركة الأشياء المحيطة بحياة الإنسان عادة، ولذا، فإن الله شرّع الطهارة من الحدث والخبث، اللذين يمثلان القذارة المادية والمعنوية، كشرط لصحة الصلاة والطواف على سبيل الإلزام، واستحبّها لكثير من الأمور العبادية الأخرى، على سبيل الرخصة. وهكذا أراد المسجد طاهراً في أرضه، كما أراد الإنسان فيه طاهراً في جسده وثيابه، لتعيش الطهارة الروحية في أجواء الطهارة المادية، ليتكامل المضمون الداخلي والشكل الخارجي للطائفين الذين يقصدون البيت للطواف حوله، بصفته الرمز المادي للتحرك في فلك رضى الله عبر احترام أوامره ونواهيه، في كل المجالات التي يطوف بها الإنسان في حياته، وعلى مستوى كل العلاقات التي يقيمها مع الناس من حوله، سواء من يتصل بهم وينتمي إليهم، أو من يتحرك في دوائرهم الفكرية والعملية، وفي كل الأماكن التي يتخذها الإنسان مواقع ثابتة أو متحركة لمشاريعه ولأوضاعه العامة والخاصة، ليكون ذلك كله مع الله في دائرة معينة يمثلها بيته، وله، في العبادة التي يخلص فيها الإنسان لربه تماماً كما هو الطواف بالبيت. والقائمين الذين يقومون لله في صلاتهم، كرمزٍ للقيام بين يديه في طاعتهم له في كل شيء، فهم يقومون له منتظرين أوامره ونواهيه ليطيعوها، وليخلصوا إليه الطاعة فيها وفي كل شيء، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ الذين يتعبّدون له في ركوعهم وسجودهم، في ما يمثله الركوع والسجود من انحناء الإنسان أمام الله بجسده وانسحاقه أمامه بجبهته، كرمزٍ لانحناء كل حياته أمام إرادته، بعيداً عن الخضوع الكامل بكل أشكاله وبكل معانيه. فإذا استكملت البيت يا إبراهيم وأتممت بناءه وإعداده على قاعدة الطهر والتوحيد، فإن هناك مهمّة أخرى تنتظرك، وهي الإعلان عن الحجّ ودعوة الناس إليه، لتكون لهذا البيت خصوصية عبادية تختلف عن سائر بيوت الله، وليمثل الاتحاد البشريّ في الحياة، باعتباره البيت العالمي الذي يلتقي فيه الناس جميعاً من كل الأجناس والألوان، على عبادة الله، ليعيشوا وحدة الإنسانية من خلال وحدة الموقع الذي يقدسونه ويتعبدون فيه، ووحدة العبادة، كرمزٍ للإخلاص في إيمانهم بوحدة الله.

وأذّن في الناس بالحجّ: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ” (الحج 27) وأعلن ذلك في كل نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرد صوت تطلقه، ليشعروا ـ من خلال ذلك ـ بأن هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطاعة، فـ “يَأْتُوكَ رِجَالاً” راجلين سائرين على أقدامهم، “وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ” (الحج 27) أي بعير مهزولٍ من شدّة التعب والجهد، “يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ” أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول، “لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ” في ما يحصلون عليه من خلال الحج من منافع دنيوية يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في المشاكل التي يعيشونها فكراً وواقعاً، عبر ما يثيرونه من قضايا وما يحددونه من أهداف وما ينتظرونه من حلول. وبذلك تسقط الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله، والسير على منهجه، والالتزام بدينه، والجهاد في سبيله، طلباً لرضاه، ما يوفر لهم الخروج من الدوائر الضيقة التي يحبسون حياتهم فيها، لينطلقوا إلى الدائرة الواسعة التي تحتويهم جميعاً، مما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حل القضايا العامة التي قد يستغرقون معها في خصوصياتهم، فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون، لابتعادهم عن الأسس التي ترتكز عليها القضايا الإسلامية لجهة علاقتها ببعضها البعض، وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام في الحياة. وهكذا تتواصل المنافع الدنيوية في رحاب الحج، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسي، والتصور الفكري، وتحقيق التكامل الاقتصادي، والمواجهة الموحدة للقوى الطاغية وغيرها. وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالمي السنوي الذي يتشكل بطريقةٍ عفويةٍ، امتثالاً لأمر الله في العبادة، ليمتد إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع. أما المنافع الروحية التي تتداخل ـ في أكثر من موقع ـ مع المنافع المادية، فتأتي من التشريعات الإسلامية المتصلة بواجبات الحج المتنوعة التي تحقق لكل جانب من جوانب شخصية الإنسان، حركة روحية تغذي فيه علاقته بالله وإخلاصه له، وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النعيم. وهكذا يريد الله للناس في الحج أن يأتوا إلى رحاب البيت، ليشهدوا ـ من مواقع الوعي والمعاناة ـ المنافع التي يجدونها أمامهم عند الوصول، أو التي يحققونها بعده، “وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ” (الحج 28) هي أيّام التشريق التي تبدأ من يوم الأضحى حتى الثالث عشر من ذي الحجة، على ما ذكر في أحاديث أئمة أهل البيت عليه السلام، أو هي أيام الحج.. “عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام” (الحج 28) من الإبل والبقر والغنم، إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم، حيث جعل الله ذلك تعبّداً منهم له تعالى، لتكون قرباناً له، إذ أحلّ لهم هذه الأضحية وجعل لها معنى يتصل بالجانب الإيماني من حياتهم، ما يوحي بهذا التزاوج في التشريع بين ما هو روحي وما هو مادي في حياة الناس، إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد، فالله هو الذي خلق الروح التي تلتقي به لتعبده، وهو الذي خلق المادة لتكون شاهداً على سرّ الإبداع في عظمته، وهو الذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرب بها إليه، تنميةً للحياة التي شاء لها أن تكون خاضعةً لقانون التضحية بحياة مخلوقة لله من أجل حياةٍ أخرى يريد لها أن تؤكد إرادته في دور الخلافة على الأرض..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here