غياب الديمقراطية أنجح تموز وأسقطها
عبد جعفر
تكشف مفارقات التاريخ، أن ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي وأسست على أنقاضه الجمهورية العراقية، كانت تطمح لتصحيح مسار الدولة التي تأسست عام 1921 من أجل تحقيق العدالة والديمقراطية الاجتماعية والسياسية، ولكنها وقعت في الأخطاء نفسها التي انبثقت من أجلها مما سهل لقوى الثورة المضادة من قطعان الفاشية والقوى الرجعية بالتعاون مع المخابرات الدولية والإقليمية في الإطاحة بها وقتل رموزها وأدخلت البلاد في دوامة الدم التي لم تنته لحد هذه اللحظة.
أذ تبين لنا الحقائق أن الحريات العامة في العهد الملكي، ممن يحاول البعض يترحم عليه، كانت مفقودة، وقد عملت وزاراته المتعاقبة على هدم العلاقات البطرياكية المتبقية في الريف وخاصة في الجنوب، و تحويل أزلامها من شيوخ العشائر بعد رشوتهم، إلى إقطاع ومستبدين على أبناء جلدتهم وأقاربهم، من خلال سن القوانين كالإستثار بالأراضي الواسعة القريبة من مجرى النهر، وكذلك الإنتاج الزراعي للفلاحين والتحكم بالمياه. بالإضافة إلى إعطائهم صلاحيات واسعة، أذ أصبحت لهم سجون دائمة، و حوشية (جلادون وشرطة) ينفذون أوامرهم، وتغاضت السلطات عن جرائمهم إن قتلوا بعض الفلاحين ونهبوهم، أو اعتدوا على إعراضهم، أو جلدهم أن لم يفوا بديونهم أو تمردوا.
وأدى هذا الوضع إلى إيجاد طبقة مساندة لقمع أي انتفاضات فلاحية، دون الاهتمام بزيادة إفقار الإهالي وجوعهم وأمراضهم، وبالتالي إلى خراب الريف و هجرة الفلاحين إلى أطراف المدن ومنها العاصمة بغداد إذا بنوا الصرائف والبيوت الطينية في الشاكرية وخلف السدة وغيرها.
وكان الريف العراقي، يخلو من خدمات الدولة من الماء الصالح للشرب أو خدمات الكهرباء والنقل والتعليم والصحة اللهم سوى بعض المدارس الابتدائية والمستوصفات الصحية المتفرقة هنا وهناك، وكثيرا ما حاول الاقطاعيون التدخل في شؤونها وتهديد الناشطين السياسيين المعارضين للسلطة من المعلمين. كما أن المناطق الحضرية في الألوية آنذاك لم تكن أحسن حالا من الريف سوى بعض المناطق في بغداد ومراكز بعض الألوية الأربع عشرة.
كما كرس الحكم الملكي الطائفية، فأكثر وظائف الدولة قصرها على طائفة دون أخرى، وخصوصا في الوظائف الكبيرة وقادة الجيش.
وعمل النظام على تكريس القمع الدموي كنهج ضد المعارضة، وكانت السلطات لا تتورع في فتح النار على المتظاهرين أو في إعدام الخصوم، وفي تعذيب المعتقلين، والزج بهم في غياهب السجون مثل (نكرة السلمان) أو في الابعاد او تسقيط الجنسية عنهم وإرسالهم إلى المنافي.
وحتى العمل البرلماني كان مجرد لعبة أو ديكور، ولم يتحمل النظام حتى وصول عشرة نواب وطنيين إلى قبة البرلمان عام 1954، لأنه يريد إمعات فقط ترفع أياديها على الموافقة فقط. فألغيت الإنتخابات، وأعلنت الاحكام العرفية. وكان تبرير نوري السعيد أمام السفير الامريكي فيليب آيرلاند، كما يشير الكاتب علي الشوك في كتابه (الكتابة والحياة) إلى خوفهم (أن يظهر بين المرشحين مصدق آخر)، في إشارة إلى محمد مصدق في إيران الذي أطيح بحكومته في 19 آب 1953 بالتعاون مع المخابرات الامريكية.
كما أن سياسته الخارجية كانت انعكاسا لسياسته الداخلية، فدخل في أحلاف ومعاهدات الهدف منها تكريس همينة الأسياد الانكليز وشركات النفط، وزج البلاد في التآمر ضد الشعوب وحركات التحرر ومنها ثورة مصر عام 1952.
وقد يقول قائل إن القمع في العهد الملكي يعد شيئا ضئيلا قياسا بقمع الحكومات المتعاقبة في العهد الجمهوري، وقد يكون في هذه الاشارة جانب كثير من الصحة، ولكن القمع يبقى نفسه، من حيث الجوهر، ويشتد ويخف حسب مصالح الفئات الحاكمة، ونشاط المعارضة لها. ومعروف أن إمعان النظام الملكي في القمع الدموي هو وراء التفكير بإسقاطه بالعنف من قبل القوى الوطنية بمشاركة الضباط الاحرار.
وإذا كانت 14 ثورة تموز، قد أطاحت بالعهد الملكي وحققت إنجازات كثيرة من خدمات في التعليم والصحة وبناء المساكن للفقراء، واصلاح زراعي وتحديد نشاطات شركات النفط، وسن القوانين التقدمية منها قانون الاحوال المدنية، وأخرجت العراق من الأحلاف الإستعمارية ودعمت ثورة الجزائر، الا أنها أخفقت لأسباب عديدة منها طبيعة زعامة حكومة الثورة الطبقية ومنهم عبد الكريم قاسم، وضعفهم في بناء الدولة على أسسس صحيحة، كتأسيس للحياة البرلمانية، وفي تطوير الديمقراطية السياسية والأجتماعية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بالإضافة إلى ترك الجهاز الملكي القمعي على حاله بدون تغيير، كما تركت الحبل على الغارب لنشاط القوى الرجعية في القتل وإرهاب الشارع، وركزت هجومها على القوى الديمقراطية ومنها الحزب الشيوعي العراقي، واتجهت إلى الحل العسكري إزاء القضية القومية الكردية، مما وسع دائرة اعدائها واسقطها وأسقط الوطن في براثن الفاشية، وكان ذلك (كعب أخيل) الذي أصيبت فيه ثورة 14 تموز التي وعدت العراقيين بعهد جديد كانوا يفتقدونه في العهد الملكي من ديمقراطية سياسية وعدالة اجتماعية، وما زال العراق والعراقيون يعانون إلى الآن من غياب الحريات العامة و الديمقراطية الاجتماعية والسياسية، ومن هيمنة قوى الفساد والمحاصصة والتبعية، ويطمحون لتحقيق البديل الديمقراطي يقلب ظهر المجن، كما جاءت به 14 تموز، ويعيد الأمور إلى نصابها ولكن بطرق وأساليب أخرى .