التراث الأدبي
روجر وبستر
ترجمة ا.د. كاظم خلف العلي
استاذ اللسانيات والترجمة
كلية الآداب – جامعة البصرة
[email protected]
كان مفهوم التراث، ذو الصلة بالتجربة، مهمًا جدًا في عملية بناء مجال موضوع أو منهج اللغة الإنگليزية وممارسة النقد. ولو أصبح “النقد” أحد الكلمات الرئيسة لمقتربات الأدب في أواخر القرن التاسع عشر بالاقتران مع مفاهيم الثقافة والأخلاق والحضارة، فإن من إحدى الكلمات الرئيسة في القرن العشرين هي “التراث”، التي أعطت الأدب والنقد الأدبي اتجاها معينا ومجموعة من القيم. و جادل مقال قصير ولكن مؤثر للغاية بقلم تي أس إليوت بعنوان “التراث والموهبة الفردية Tradition and the Individual Talent” (1919) إن الأدب يجسد الصفات والقيم الخالدة التي يمكن عدها شكلاً من أشكال الموروث الثقافي:
… يتضمن المعنى التاريخي تصورًا، ليس فقط لماضية الماضي، ولكن لحضوره؛ إن المعنى التاريخي يجبر الإنسان على الكتابة ليس فقط وجيله محفور في عظامه، ولكن مع الشعور بأن كل أدب أوروبا من هوميروس وداخلها كل الأدب في بلده كله له وجود فوري ويؤلف في الوقت نفسه نسقا متزامنا. هذا المعنى التاريخي، وهو الإحساس بالخالد والزائل معًا، هو ما يجعل الكاتب تراثيا (2).
لقد أصبح الشعور بـ”التراث” الفردي الموحد مركزيًا في الطريقة التي يُنظر بها إلى الأدب. وفي الوقت الذي كان يكتب فيه اليوت قصيدته “الأرض اليباب The Waste Land” (1922)، وهي بنحو سطحي أحد أكثر النصوص الأدبية التجريبية تجزؤا، كان إليوت يقترح أيضًا أن الأدب ودراسته يتألفان أساسًا من إحساس بالوحدة والقيمة يتجاوز أي لحظة تاريخية محددة. وفي الواقع، يزيل الجدل التاريخ عن الأدب المتعلق منه بالماضي والحاضر بأي معنى مادي، وبدلاً من ذلك يروج لمفهوم نوع من التاريخ الروحي الذي يعتمد على الإدراك الحدسي للتجربة الإنسانية ،على غرار رأي أف آر ليفيز في دور النقد الأدبي. و يعزز هذا بواسطة أطروحتين أخريين: أن الأدب هو نشاط غير شخصي تخضع وتزاد فيه تجربة الكاتب أو القارئ الفردي بالمعنى الأكبر للتجربة كتراث، وأن هناك، في الأقل منذ منتصف القرن السابع عشر فصاعدًا، تقسيم بين التجربة واللغة. ومن الناحية المنطقية، فإن تجربة اللغة هي أن العالم أو “الواقع” شيء واللغة شيء آخر، وأننا نستعمل اللغة لوصف ما نشعر به بعدها. ومع ذلك، فإن النظريات اللغوية توحي أن هذه العلاقة مختلفة إلى حد ما وأكثر تعقيدًا ويمكن أن يُنظر إليها على أنها تتحدى فهمنا لتجربة اللغة على مستوى الفطرة السليمة.
وبدلاً من الجدل على طول الخطوط النظرية المنطقية، يمكن عد إليوت ممثلاً لما يمكن تسميته بالمقترب الميتافيزيقي للأدب. وأعني بكلمة “الميتافيزيقي” أنه يفترض بلا شك أن الأدب- أو نوعًا معينًا من الأدب هو مستودع لمنطقة ذات قيمة وحقيقة مطلقة لا تحتاج إلى إثبات ولا يمكن الطعن فيها. لم تعرف التجربة و”التراث” بنحو صارم أبدًا، حتى وان “ميزت الصرامة افتراضا نشاط النقد العملي”، وهي نوع القراءة الدقيقة للأعمال الأدبية التي كانت مفضلة كثيرًا منذ عشرينات القرن العشرين فصاعدًا.
لقد كان النقد العملي في الأساس طريقة للقراءة طورها أحد أتباع إليوت، هو آي أي رݘاردز. وحاول رݘاردز معاملة النقد الأدبي على أساس عقلاني أو علمي بواسطة اقتراح طريقة للقراءة. ومع ذلك، فإن الفئات الرئيسة للنقد التي ينادي بها رݘااردز في كتابه “النقد العملي: دراسة الحكم الأدبي Practical Criticism: A Study of Literary Judgement”(1929) وهي “الحس” و”النغمة” و”الشعور” و”النية” تبدو غير علمية إلى حد كبير، خاصة في ضوء النظرية النقدية والأدبية الحديثة جدا. وبالمثل، دافع أف آر ليفيز عن طريقة قراءة تسمى “القراءة الدقيقة Close Reading” والتي بدت سمة مركزية للممارسة النقدية كما تصورها. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى أنواع الأحكام والاستنتاجات التي توصل إليها إليوت و ليفيز، فإنها بالكاد تبدو كنتاج لمثل هذا التحليل النصي الدقيق. وقد يفترض المرء أن مثل هذه الطرق ستولي اهتمامًا وثيقًا للغة والتراكيب النصية، ولكن غالبًا ما مالت أحكامهما إلى أن تكون مستنيرة بالأفكار والقيم التي تقع خارج النص وكانت جوانب من المجالات المعممة والغامضة للتجربة والتراث. و أكد أف آر ليفيز في نقده للأرض اليباب في عمله “اتجاهات جديدة في الشعر الإنگليزي New Bearings in English Poetry” (1932) أنها كشفت عن “عقل حي كليا في هذا العصر”، لكن قراءته هي قراءة تؤكد إحساس القصيدة بفقدان وتجزؤ موروث أدبي وثقافي سابق. ويجري التعامل مع أي شيء معاصر باستخفاف في القصيدة ويتجاهله ليفيز إلى حد كبير. وعندما يتحدث ليفيز عن كونه حيًا تمامًا فيما يخص اللغة أو تجربة الإنسان الملموسة، يبدو الأمر كما لو أن استعاراته تحاول ترسيخ نهج نقدي غير مادي في الأساس لا يتعامل مع النص على أنه لغة أو تاريخ.
لقد قام إليوت وليفيز وآخرون بحشد مجموعة من الأعمال الأدبية التي جاءت لتشكل ما أصبح يُعرف باسم “الآثار canon”: أي مجموعة من الأعمال المختارة للوضع الآثاري والتي شكلت العمود الفقري للثقافة أو التقاليد الأدبية. ولم يجر توضيح معايير التقديس أو الآثارية أبدًا، ولكن من المؤكد أن هذه المجموعة من الأعمال شكلت جوهر دراسات اللغة الإنگليزية منذ أوائل العشرينات. وكانت هناك نقاط جدل جيدة عما إذا كان يمكن السماح لبعض المؤلفين بمثل هذا الوضع القدسي أو الآثاري. ورأى ليفيز في البداية أن ديكنز Charles Dickens يفتقر إلى الكمال الضروري للعظمة الحقيقية في كتابه “التراث العظيم The Great “Tradition (1948)، باستثناء رواية “الأزمان الصعبة Hard Times” (1854) التي أظهرت “عبقرية إبداعية مميزة … محكمة بالكامل وصولا إلى أهمية موحدة ومنظمة”، لكنه تراجع فيما بعد ووضعه في المدفن الأدبي إلى جانب عظماء من أمثال جين أوستن وجورج إليوت. لكن ما هو واضح هو أن المؤلفين أو الأعمال التي انتخبت على هذا النحو صنفت بواسطة صفات غامضة إلى حد ما تعود إلى تي أس إليوت وماثيو أرنولد، وبينما استمرت النقاشات عن عظمة جون ملتن John Milton أو بيرسي شيلي بيش Shelly Percy Byssh، جرى تجاهل مساحات شاسعة من الكتابة. ولم يعد الأدب الشعبي أدبيًا بأي شكل من الأشكال، بل كان يُنظر إليه على أنه تهديد للأدب العظيم والقيم الأخلاقية المرتبطة به. ورأى ليفيز الأدب الشعبي باعتباره شكلاً من أشكال التلوث الثقافي وجادل في قيمة الثقافة الرفيعة في كتيب نُشر عام 1930 بعنوان “الحضارة وثقافة الأقليات Civilization and Minority Culture”، ودعمت مجلة Scrutiny”” التي أسسها ليفيز في عام 1932 وأدار تحريرها حتى زوالها في عام 1953 الأنواع نفسها من الآراء.
وللاستنتاج، فإن الموقف النقدي الذي يمثله ليفيز وبالعودة إلى ماثيو أرنولد غير منظر له. في الواقع، كانت فكرة أن النقد يمكن أن يكون نظريًا بأي شكل من الأشكال لعنة ليفيز، كما أوضح في مقال بعنوان “النقد الأدبي والفلسفة Literary Criticism and Philosophy ” في كتابه “السعي المشترك The Common Pursuit” (1952). في هذا المقال، يجادل ليفيز أن النقد الأدبي لا علاقة له بالفلسفة وأن أي “نظام نظري” سيكون غريبًا عليه. وتستعمل تعريفاته للناقد وممارسة النقد الأدبي نوع المفردات التي تشير إلى وجهة نظر “الحياة /التجربة” للأدب:
أفهم القارئ الكامل complete reader بوساطة ناقد الشعر: الناقد المثالي ideal critic هو القارئ المثالي ideal reader. والقراءة التي يطلبها الشعر هي من نوع مختلف تمامًا عن تلك التي تتطلبها الفلسفة …. الكلمات في الشعر تدعونا، ليس “للتفكير” والحكم، ولكن “للشعور بالاندماج” أو “بأن نصبح”. إن هدف الناقد، أولاً، هو أن يدرك بحساسية وبنحو كامل قدر الإمكان هذا أو ذاك الذي يسترعي انتباهه … وعندما ينضج في تجربة الشيء الجديد يسأل صراحةً وضمنيًا: “من أين يأتي هذا؟ وكيف يبرز فيما يتعلق بـ …؟ وما مدى أهمية ذلك نسبيا؟ والتنظيم الذي يستقر فيه كمكوِّن في أن يصبح “مموضعا” هو تنظيم لأشياء “مموضعة” بنحو مشابه، أشياء وجدت تأثيراتها فيما يتعلق بعضها مع بعض، وليس نظامًا نظريًا أو نظامًا تحدده اعتبارات مجردة (3).
يمكن أن يُنظر إلى ليفيز هنا على أنه يحاول صياغة نوع من التفكير النقدي يقترب مما نعتقد الآن أنه مقترب نظري على الرغم من أنه يبدو مقاوما لمثل هذا الموقف. ومن ناحية أخرى، فإن لغته، وجدله بقدر ما يوجد هناك جدل ، غامضة للغاية ومجردة: و هي من المفارقات التي يشكو منها ليفيز بالضبط على صعيد النظرية والفلسفة. لقد شكك المنظرون الأدبيون مثل تيري ايگلتون (4) في آراء ليفيز، مجادلين أنه لا يوضح العمليات التي يقيم بواسطتها نصًا أدبيًا ، إضافة إلى أن نوع النقد الذي يمارسه يمكن أن يؤدي إلى الغموض: أي، بدلا من قيامه في الواقع بترويق وتوضيح الطرق التي يتوصل بها إلى الأحكام ووضع النصوص الأدبية في ترتيب معين، فهي في الواقع تُجعل غامضة. إن تأثير هذا هو جعل المضامين الثقافية والتاريخية لمثل هذا النقد “طبيعية”. و يبدو نوع “التجربة” الذي يستحضره ليفيز هنا غير محدد، وبعيد عن تجارب معظم القراء وليس جزءًا منها، ومن المفترض أنه نتاج قراءة أعمال أدبية معينة مقترنة بحساسية خاصة تسمح لنا بنحو حدسي بالتعرف على مثل هذه الأعمال وتقييمها. ومن ناحية أخرى، فإنه بواسطة الجدل بأن “الشعور” و”الحياة” و”الخبرة” أساسية فيما يخص النقد الأدبي، يبدو أن ليفيز وأسلافه يجعلون الأدب أقرب إلى القارئ أكثر مما قد تبدو عليه بعض المقتربات النظرية، ويبدو أن هناك شيئًا ما سهل الوصول وفطري عن هذه اللغة التجريبية. ومع ذلك، فإن مثل هذه اللغة تحجب المجالات نفسها التي تسعى إلى تحديدها: يتم استعمال “الشعور” ” و”الحياة” و”التجربة” بطرق عامة ومجردة جدًا تتجاهل خصوصية الإنتاج والاستهلاك الأدبي وتعني أن هناك طريقة واحدة خالدة وموحدة وكونية من القراءة التي قد نحققها جميعًا في النهاية أو نلمحها في الأقل، والتي بدورها تمثل المجموعة الأكبر من الأدب الرفيع كتراث. ويسمح هذا النوع من النقد فقط للقراء بالتعرف على أفكار وقيم معينة مع استبعاد أو تهميش أخرى.
إن مسألة “الادراك”: كيف نفهم أو نعرف أشياء معينة على أنها جيدة أو سيئة أو صحيحة أو خاطئة هو مجال مهم للغاية ستفحص في الفصل الرابع ضمن مسمى الإيديولوجيا. وسيجري أيضًا تطوير فكرة ليفيز عن “وضع” النصوص في الفصل الخامس، ضمن العلاقات النصية، حيث سيجري التعامل مع الطرق التي ينشأ بها التفسير والمعنى والوظيفة. وفيما يخص بقية هذا الفصل، أود أن أنتقل إلى بعض الافتراضات والأعراف المحورية بالنسبة للأدب والنقد الأدبي وأرى كيف تقدم النظرية الأدبية وجهات نظر حول هذه: في بعض الحالات، كما هو الأمر مع مفهوم المؤلف، قد تبدو هذه متطرفة أو استفزازية. ولكن إذا تحدت وجهات نظرنا المنطقية، فلا داعي أن يكون هذا أمرًا سيئًا بالضرورة لأنه ينبغي أن يساعدنا في توضيح مواقفنا لأنفسنا ولمن نتناقش معهم أو ننقل أفكارًا لهم حول الأدب. وفي العام 1957، أعرب نورثروب فراي Northrop Frye في كتاب حاول تعريف طبيعة النقد الأدبي ووظيفته بعنوان “تشريح النقد Anatomy of Criticism” عن أسفه بأنه لا توجد اية نظرية نظامية للأدب. وشعر أنه بدونها لا يمكن كتابة أي نص للمبادئ الأساسية. وقال إن النقد كان “دينًا غامضًا بدون إنجيل”. وبينما لا أريد أن أقترح أن النظرية الأدبية هي الإنجيل الذي اعتقد فراي أنه يفتقر إليه- وقلة من المنظرين يريدون تقديم مثل هذا الادعاء- هناك الآن أفكار متداولة تساعد في توضيح ما ينطوي عليه الأدب والنقد الأدبي. وربما يكون أحد الأشياء التي تخبرنا بها النظرية الأدبية هو أن الأناجيل هي نفسها نصوص خاضعة للتأويل: المعرفة والحقيقة نسبيان تاريخيًا- وهو أمر لم تعترف به دائمًا مؤسسات الأدب والنقد الأدبي، ربما لأن القيام بذلك يتعارض مع مصالحها.
Read our Privacy Policy by clicking here