العراق…صراع بين مشروعين

ساهر عريبي

تشهد الساحة العراقية ومنذ إعلان نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة, حالة من الشد والجذب والاحتكاك والاحتقان الذي ينذر بوقوع مواجهة مسلّحة قد تكون الخيار الأخير لحسم الصراع الدائر ليس بين قطبين على الساحة السياسية الشيعية, بل بين مشروعين ونهجين ورؤيتين متناقضتين لكيفية حكم بلاد ما بين النهرين وتحديد مستقبلها المنظور والبعيد.

يقود أحد الفريقين السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري, شعاره الإصلاح ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين واستعادة سيادة الدولة العراقية ومنع التدخلات الخارجية في شؤونها من أي كان وتحت أي ذريعة ومبرر. أما الفريق الثاني فيقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي القائم مشروعه على إعادة تدوير ذات الوجوه المتهمة بالفساد والفشل وهو في مقدمتها, فقد اعترف عقب إزاحته من الحكم عام 2014 بانه فاشل وان الطبقة السياسية جميعها فاشلة ويجب عليها أن تنسحب من المشهد.

لكنه اليوم وبعد مرور 8 سنوات على اقراره بالفشل وبرغم الفساد غير المعهود الذي طبع سنوات حكمه, فإنه لا يزال مصرا على تصدر المشهد السياسية ومتشبثا بمختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة للاستحواذ على السلطة وإن اقتضى الأمر إطلاق شرارة حرب أهلية أو الاستقواء بالخارج, كما كشفت التسريبات الأخيرة المنسوبة إليه.

فالنهج الذي رسمه حزب الدعوة الذي يقوده المالكي قائم على خمس ثوابت هي الاستقواء بأموال الدولة, والاستعانة بالخارج, والتهديد بالسلاح وتجنب محاسبة الفاسدين بل واستيعاب أي فاسد يطرد من القوى الأخرى وكما حصل مع نواب ووزراء كانوا محسوبين على التيار الصدري ممن طردهم زعيمهم من صفوفه إثر فسادهم وسوء استخدامهم للسلطة, وأخيرا الاستقواء بالمحكمة الاتحادية.
فهذه المحكمة ألقت طوق النجاة للمالكي عام 2010 عقب خسارته للانتخابات لصالح رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي إلا أنها قدمت تفسيرا شاذا لا نظير له في جميع الأنظمة الديمقراطية وهو أن التحالف الأكبر هو الذي يمنح فرصة تشكيل الحكومة وليس الفائز بالانتخابات, مع ان حجر الزاوية في النظام الديمقراطي هو منح الفائز فرصة تشكيل الحكومة فإن نجح في حشد تحالف برلماني يتمتع بالأغلبية فنعم به وإن لم ينجح فيمنح الفائز الثاني الفرصة, لكن المحكمة بتفسيرها الشاذ كانت كمن يضع العربة أمام الحصان.

واليوم وبعد أن نجح التيار الصدري في تشكيل تحالف برلماني عابر للطوائف والقوميات من نحو 200 نائب في سابقة هي الأولى من نوعها منذ انطلاق هذه العملية السياسية البائسة في العام 2003, فقد تدخلت المحكمة الاتحادية مرة اخرى واشترطت حضور ثلثي أعضاء البرلمان جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الذي يكلف مرشح الكتلة الفائزة التي هي الأكبر في الوقت ذاته مهمة تشكيل الحكومة الجديدة.

ومما لاشك فيه أن هذا الشرط سابقة فريدة من نوعها, ويفرغ الانتخابات من مضمونها فالأساس في جميع الأنظمة البرلمانية أن الحكومة تنال ثقة الأغلبية وليس الثلثين, بل إن بعض الأنظمة المتطورة كما هو عليه الحال في السويد, تشترط عدم معارضة الأغلبية للحكومة, بمعنى أن المعارضة إذا كانت أقل من الأغلبية المطلوبة فإن الحكومة تبصر النور كما هو عليه الحال في حكومة رئيسة الوزراء مجدلينا أندرسون, التي فاز حزبها بأقل من ثلث مقاعد البرلمان لكنها تحكم البلاد اليوم رغم عدم تمتعها بأغلبية برلمانية.

وبالعودة إلى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية فإن الدستور اشترط نيل المرشح تأييد ثلثي النواب في جولة الاقتراع الأولى والأغلبية في الثانية, ولم يحدد حضور الثلثين فإن تعذر حضورهم فإن ذلك يعني عدم نيله التأييد المطلوب في الجولة الأولى. إلا أن المحكمة الاتحادية وضعت العصي في دواليب مشروع الصدر الإصلاحي الذي كاد يبصر النور لولا قرار المحكمة التي أصبحت أداة بيد الفاسدين واللا وطنيين لتدمير العراق والعبث بحاضره ومستقبله. ولذا فيمكن القول أن خطر المحكمة الحالية أشد على العراق من الفاسدين والفاشلين والعملاء , لأنها توفر لهم الغطاء الشرعي لتتدخل لإنقاذهم كلما اقتربت ساعة حسابهم وإزاحتها من المشهد السياسي, حتى يمكن القول أنها أصبحت العدو الأول للعراق.

وفي تفاصيل المشروعين يلاحظ أن الصدر يعول على الشعب العراقي لتحقيق الإصلاح المنشود, فتياره شعبي جارف تضرب جذوره في هذه الأرض وقد رفض التعاون مع الاحتلال الأميركي ومنذ اليوم الأول في وقت سارع فيه أصحاب المشروع الثاني إلى الانخراط في المشروع الأميركي منذ يومه الأول. كما انه رفض الاستعانة بدول الجوار فظل عراقيا خالصا, إلا ان البعض يحاول التقليل من شأن ذلك عبر التركيز على مساوئ أعضاء في التيار لكونه تيار شعبي وليس نخبوي, غير أن لسان حال التيار“ قولوا فينا ما شئتم إلا أننا نظل الخيار الوطني الذي لا يعتريه شك“.

وفي مقابل هذه الرؤية والبصيرة لهذا التيار الذي حمل هم الإصلاح واستعادة السيادة, يقف الفريق المقابل, هو لايهتم لسيادة البلاد, ويسمح لمن هب ودب بالتدخل في شؤونها تحت شعارات ويافطات براقة تهدف للتغطية على فساد أعضائه واستمرار هيمنته على السلطة. مشروعهم المحاصصة التي طالما علقوا عليها فسادهم وفشلهم, ومشروعهم نهب مدخولات الدولة العراقية وتحويلها لأسيادهم بعد أخذ نسبتهم منها, ومشروعهم هيمنة الجهلة والمتخلفين على مفاصل الدولة ممن يدينون بالولاء للقائد الضرورة , ومشروعهم استباحة السيادة العراقية فآخر ما يهمهم هو العراق. هم طلاب سلطة لم يستوعبوا إلى اليوم درس الانتخابات, يريدون التربع على عرشها بأي ثمن كان وبأي وسيلة.

إذن الصراع الدائر في العراق هو صراع بين مشروعين رغم انه أيضا صراع على السلطة, ولكن مع اختلاف الرؤى. فالسلطة ينظر إليها التيار الصدري على انها أداة لتحقيق الإصلاح واستعادة السيادة, فيما يرى فيها الإطار أداة لنهب الموازنة والاستحواذ على الامتيازات والاستمرار فيها وإن كان ذلك على حساب سيادة العراق والعبث بحاضره وتدمير مستقبله!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here