الماء والغربال

الماء والغربال

علي علي

لاتدعني ككمون بمزرعة
إن فاته الماء أغنته المواعيد
من قصص التأريخ، يروى أن عطشا اشتد بأعرابي وهو في طريقه الى بغداد، فاتجه صوب بيوتات لاحت له في الأفق، وطرق باب أحدها مستسقيا من أهلها ماءً، ففتحت له الباب امرأة تفوق البدر سناء، فبادرها قائلا: “أيسر ماعندكم أريد ولاأريد أصعب ماعندكم”.. ومن دون ان تستفهم منه مايقصد، دخلت بيتها وأتت اليه بكأس فيه ماء، إذ معلوم عند العرب أن أيسر شيء هو الماء، وأصعب شيء هو الشرف، وما إن شرب وارتوى حتى بادرته بقولها: “لو كنت اعرف اسمك لقلت لك هنيئا”، فقال لها: “اسمي على وجهك” فقالت له على الفور: “هنيئا ياحسن”. فأردف بدوره قائلا لها: “لو كنت اعرف اسمك لقلت لك شكرا”، فقالت له: “اسمي على جنبك” فقال لها: “شكرا ياهند”..! إذ كان متقلدا سيفا على جنبه وهند اسم من أسماء السيف.
هكذا هم العراقيون لهم من سرعة البديهة مالايمتلكه غيرهم، فقد اجتمعت فيهم روح البداوة وخصالها المتمثلة بالصبر والشهامة والمروءة وقوة الفراسة، كذلك هم يتمتعون بصفات التحضر والمدنية، فكان بهم تكامل في الشخصية والثقافة والطباع.
أسوق ماتقدم وأنا أرى في عراق القرن الواحد والعشرين نماذج من شخوص، أستبعد ان يكونوا من نسل “حسن” او “هند”، إذ هم لاينتمون الى خصلة حميدة او نصف حميدة او حتى ربعها، فمع تناسل بني آدم تناسل الخير والخيرون من دون انقطاع، مقابل هذا تناسل وتناسب وتصاهر الشر والشريرون في مناكب الأرض، فبدت موازينها معتدلة تارة بفعل بسط الخيرين أفكارهم وأفعالهم، ومقلوبة تارات أخرى بفعل الشريرين ومعتقداتهم ومكائدهم وغدرهم. فهم -الشريرون- اعتادوا الخراب، ولايهنأ لهم عيش إلا بإشاعة الدمار وسط معيتهم وإن كانوا من أبناء جلدتهم، إذ كما يقول صاحب الأبوذية:
آنا ام المصايب وآنه ابيها
وهي دوما تبيني وآنه ابيها
خل تغرگ يصاحب وآنه بيها
إذا غرگت سرور يصير بيه
وأرض مثل وادي الرافدين يتوجب الحفاظ على إرثها الحضاري، وهذا لن يتم إلا ببسط القوة والقدرة والسيطرة والهيمنة لدى حاكميها، ومن يتقلدون مراكز السلطات العليا فيها، لاسيما المسؤولون عن حمايتها، وتزداد الحاجة الى القوة أكثر من هذا، عندما يطفو على السطح نفر ضال ليس لاعوجاجه تقويم بالنصح والإرشاد، فتغدو القوة بكل اتجاهاتها ودرجاتها، الوسيلة الوحيدة في التعامل مع انتهازيين ونفعيين ومفسدين، لايمتلكون من الشرف والقيم والأخلاق والمبادئ حدا أكثر مما موجود في الضباع والثعالب، لما تحمله من صفات المكر والغدر والخديعة.
إن مفسدي اليوم يمتلكون من الشر وجهين، الأول ظاهر يتمثل بأقوالهم، والثاني باطن متمثل بأفعالهم ونياتهم المبيتة، وهو في حقيقة الأمر أضحى أكثر وضوحا من الظاهر، وأقرب للقراءة والإدراك منه، فصار لدى العراقيين سيان حالا الباطن والظاهر. فأقوال معتلي سدة الحكم غالبا ماتكون مقروءة قبل نطقهم بها، لاسيما بعد أن خبرهم العراقيون وأدركوا تماما مبتغاهم في المفردة التي يتفوهون بها، وهذا طبعا بفضل تصريحاتهم خلف مايكروفون هنا أو على منصة هناك، وقد فاتهم ان العراقيين مازالوا يتمتعون بما يتمتع به “حسن” و “هند”، وأغلبهم كما نقول: “يقرون الممحي”.
هذا ما نقرأه اليوم ونسمعه ونراه جملة وتفصيلا، مع الكم الهائل من السياسيين الذين لايعرفون من السياسة غير التصريحات التي يبدون فيها التطمينات، وإطلاق المواعيد العرقوبية التي يحقنون المواطنين بها كجرعة مخدرة الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أنشد كعب بن زهير:
صارت مواعيد عرقوب لها مثلا
وما مواعيدها إلا الأباطيل
فليس تمسك ميعادا إذا وعدت
إلا كما تمسك الماء الغرابيل
[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here