تذكرتُ آرثر رامبو في عدن *! ..

تذكرتُ آرثر رامبو في عدن *! ..

بقلم مهدي قاسم

أحيانا ألقي نظرة خاطفة نحو أقراني من تائهين في ملكوت عزلتهم العامرة والعارمة بجمهرة أناواتهم المتكئة على رماح خيبتهم البهيجة ، وهم منهمكون بمضغ قات أوقاتهم العطنة و المبّخرة بتوهجات سراب مخاتل يتشح بأسمال سديم مُهيب ، وهم يتأملون ركام خسارتهم بتحديقة صارمة كما لقرصان مغدورين في ذاكرة بحار أوشكت على جفاف و يباس ، بينما تحت خطوي ثمة قلب هائج لمحيط ينبض بأنين غرقى للاجئين يحلمون بشقق مريحة و بشقروات أوروبيات سخيات بجنس و حب ، يتشبثون ببقايا موتهم المطرز بأشلاء خذلانهم ، هم أشبه بأيتام أزمنة غابرة و منبوذين دوما كرائيين ملعونين و كشّافين أوائل ، لم يأخذوا حصتهم من أسلاب سلطة أو مال كان مرميا على قارعة طرق في أزمنة مضطربة بفوضى منفلتة ، على أهبة دوما بنظراتهم الذعرة و القلقة على محفات ضجرهم المفرط ، متأنقين بتيجان ملوك صنعوها من مخيلتهم المستنفرة ، كأنما بنية انطلاق وشيك نحو مجدهم الوهمي الذي لم يكن في النهاية غير قبضة من رماد و غبار ، وكم أبهجني أن أكون محصَّنا من دغدغة أوهام مجد خاو أو هلوسة ثراء متبلد ، من بريق مقبض ذهبي لصولجان سلطان بغية جلد عبيد بالفطرة ، لا يتحركون إلا بأوامر صارمة ..
فآنذاك خطر على بالي الرائي الأعظم ، متسائلا يا ترى أية بصيرة لفداحة العبث العظيم جعلت رامبو في عدن أن يهجر الشعر ، متاجرا بأسلحة و عبيد ؟! .

* في صيف 1982 وجدت نفسي مع جمهرة غفيرة من ثوار وثوريين مخذولين على متن سفينة انطلقت من ميناء جونيه اللبناني متجهة إلى عدن ، و كنتُ بدافع سبب غامض قد فضلتُ عدن على تونس ..
وهناك .. في عدن .. وجدتُ صخور الجبال المسننة الجرداء تبرق من شدة سوادها و كأنها أقمار و نجوم متفحمة كأنما تشتعل سوادا أكثر غمامات منخفضة تتركها رفرفة أسراب غربان شرسة تحدّق في وجهك عن قرب قريب و مستعدة لمهاجمتك بتحد سافر ووقح عجيب ، بين ضجر طاغ و رتابة قاتلة ونعاس ثقيل وملح متواصل تتخلله تثاؤبات عميقة ومخدِرة ، خُيل لي كأنني رايت من خلل نافذة ظل رامبو ماضيا بصحبة حراس و عبيد محمّلين بأسلحة و ذهب و عاج فيلة ..
فصحتُ في أعقابه : حسنا يا رامبو !.. فيا لها من مصادمة عجيبة وتوقيت غريب :
أنا الصحفي و الكاتب الثوري المنفي إلى عدن ألتقي مع الشاعر السابق و تاجر الأسلحة الراهن أرثر رامبو ! ..
لم يقل شيئا ، فقط حرّك يده بلامبالاة ، و على نحو سيّان عنده تماما أين كان و ماذا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here