في ذكرى رحيله : نصر الله الداوودي رئيس تحرير جريدة العراق

نصر الله الداوودي ( نتحدث عنه كانسان ) .. مرت 19 من الأعوام على رحيله ولكنه لا يغيب عن بال من عرفه اسما او خلقا او عنوان لما تركه من اثر في نفوس من عاشره وعمل معه ، عرفته في منتصف تسعينات القرن الماضي حين كنت أمارس ( هوايتي ) في كتابة ونشر المقالات والدراسات في الصحافة والإعلام ، بعضها اقتصادية وبعضها تنموية والبعض الأخر تتعلق بأمور الإنسان ، وفي وقتها كان النشر في الصحف اليومية أمنية لا ينالها ( على الأغلب ) كل من هب ودب نظرا لمحدودية عدد الصحف العراقية وعائديتها والشروط التي كانت تفرضها وزارة الإعلام وغيرها من الجهات التي كانت تضع أعين في رقابة المنشورات ، وكان الداوودي يرأس تحرير جريدة ( العراق ) وهي جريدة في ظاهرها أكثر استقلالية ( إداريا ) من غيرها من الصحف ، ولكن ارتباطها ربما يقترن بالأشقاء الكرد أحزابا او أفراد وتفاصيل هذا الأمر لم تكن من اهتمامي قط ، فعلاقتي بالجريدة محصورة بين شخصين الأول هو السيد غالب زنجيل وهو صحفي معروف وكان يعمل في جريدة ( الجمهورية ) فبل إحالته إلى التقاعد وقد كانت الجمهورية مصدر معرفتي به حيث كنت اكتب فيها في صفحة ( دراسات ) رغم إنني كنت اشغل منصب مدير عام في وزارة الصحة ولست محترفا في الصحافة والإعلام ، والثاني هو السيد جبار اطراد ألشمري الذي عرفني عليه غالب زنجيل لان الأخير كان مسئولا عن صفحة ( ضفة الطموح ) التي تصدرها جريدة العراق بواقع يومين في الأسبوع وسبب هذا التقارب إن اغلب كتاباتي تنموية واقتصادية ولها علاقة وثيقة بمواضع ضفة الطموح , وبعد أن نشرت عددا من المقالات والدراسات ابلغني السيد غالب زنجيل عن رغبة رئيس التحرير نصر الله الداوودي في التعرف علي بعد أن تابع كتاباتي وردود الأفعال بخصوصها ، وفي ذلك الوقت كانت غرفة رئيس التحرير محرابا له في العمل يقضي فيها معظم الوقت ليلا ونهار ، وولوجها ليس سهل المنال لان مقابلته يجب أن يكون مسببا فهو لا يهدرا وقتا في السوالف والمجاملات وإنما يركز على عمله بالشكل الذي يعرفه جميع العاملين .

وبصراحة لم يكن موضوع التعرف عليه يثير اهتمامي لأني خبرت مثل هذه العلاقات واشعر بنوع من الاستقلال بعد تركي المناصب وانتقالي للتعليم العالي للعمل أستاذا جامعيا بناءا على رغبتي في التفرغ للتدريس والبحث بعد أن مللت الوظيفة وما تحتويه من خزعبلات ، وحين دخلت لغرفته ( التي لم يكن يسبقها مكتب او سكرتير او غيرها من البيروقراطيات ) وجدته بحالة من الوقار في الملبس وفي اتكيت الاستقبال حيث قضينا دقائق للتعارف وتبادل الآراء وعرفت انه قرأ كل ما كتبت بإمعان كحال ما ينشر في جريدته ثم انتهى اللقاء بكل ود واحترام ، وبعد هذا اللقاء بفترة أدخلت للصحف العراقية تقنية الانترنيت ( الممنوعة على المواطنين ) حيث تم السماح بنصب منظومة الاستقبال لهذه التقنية على أن تكون بغرفة رئيس التحرير وبإشرافه فحسب ، ولكوني أستاذا جامعيا ولي معرفة باستخدام تقنيات الاتصالات فقد دعاني لأكثر من مرة بصحبة بعض مسئولي الصفحات لتصفح القنوات الفضائية واختيار المناسب من المواضيع العلمية والتنموية والاقتصادية وانتقاء الصور لنشرها في بعض الصفحات ، ولأني أتردد على الجريدة لأسلم مقالاتي فقد تفاجأت بأنه يعرف بحضوري ، وعلمت لاحقا انه وضع كاميرا في مدخل الجريدة (الاستعلامات ) و يتابع حركة الدخول والخروج فقد يمر لإلقاء التحية او يستدعيني للحضور إلى مكتبه ، وفي المرات التي كنا نلتقي بها كنا نناقش مواضيع مختلفة وأحيانا يستشيرني ببعض الأمور ومنها جزئيات تتعلق بالصحة بعد أن أصيب بوعكة ليستفيد من خبراتي السابقة وكنت أعطيه آرائي حول ما اعرفه ، وتطور الأمر إلى دعوتي للغداء معه لأكثر من مرة حيث كان يتناوله في في مكان قريب من مكتبه فقد كانت عائلته ترسل له طعام الغداء صحبة أخوه لأنه لا يتناول أكل السوق ، وكنت اعتذر عن تلبية دعواته هذه لأنني على وشك الذهاب للبيت وتناول الغداء مع العائلة ، وفي مرات عديدة قدمت المساعدة للجريدة في إحضار بعض المستلزمات للعمل ومنها أفلام ( جهز الفحص بالسونار ) لطبع الصور التلفزيونية التي كانت تبثها الوكالات لأهم الإحداث كما قدمت إسنادا في إجراء مقابلات صحفية حصرية مع بعض المختصين من باب السبق الصحفي وغيرها من الأمور المهنية ، وجميعها تطوعية ومجانية لان الجريدة كانت تعمل بإمكانيات متواضعة في وقت الحصار ومبيعاتها وإعلاناتها محدودة الإيرادات ، والخلاصة إن علاقتي به كانت مركزة على الجانب المهني والجانب الإنساني ، رغم إنني تعرفت على اغلب إفراد أسرته من الأبناء والإخوان وكانت بالفعل علاقة ايجابية وصادقة لم تستغل بأي شكل من الأشكال ، وفي بعض الاحيان كنا نلتقي عصرا او في المساء لنتشارك الآراء في كتابة زاوية في الصفحة الاولى او لتغطية أحداثا علمية او تقنية او اقتصادية حيث كان يستشير كادر الجريدة في الجوانب السياسية كوني بعيد عنها وليست من اختصاصي واهتمامي .

لقد امتدت علاقتي ب ( أبو شيلان ) وهي كنيته التي يتعامل بها مع المقربين فحسب لعدة سنوات وجسد من خلالها شخصية المسؤول الملتزم القادر على عزل ذاته ورغباته الشخصية وأموره الاجتماعية عن إدارة الجريدة بكل اقتدار ، وكان محبوبا من الجميع فيحترم الصغير والكبير ولم يتدخل في خصوصية وانتماء الآخرين ولم يفرق بين أحدا على أساس القومية والانتماء فالعاملين في الجريدة من مختلف القوميات والأديان ، كما كان مهنيا وشجاعا فقد كانت ترده كتابات من مسئولين حكوميين ورتب حزبية وعسكرية طالبين نشرها على صفحات الجريدة ولكنه لم يجاملهم بهذا الموضوع رغم إن ذلك سبب له بعض الاحراجات فشعاره ( لا يصح إلا الصحيح ) وكان هذا الشعار يفرضه على جميع مسئولي الصفحات فيناقش بعضهم عن أسباب ترويج موضوعات وافقوا عليها وهي لا تصلح للنشر وعندما كان يشعر بإحراجهم يخاطبهم بالقول ابلغوهم بالاعتذار عن النشر باسمي وليس باسمكم ، ورغم انه كان قليل الاختلاط والعلاقات إلا انه كان يحرص على مراعاة الجوانب الاجتماعية والإنسانية لمن يعمل معه من الصحفيين والكادر المتقدم وبقية العاملين بمختلف المستويات سواء في الأحزان او الأفراح وبمختلف المناسبات ، وكان هذا يزيدني احتراما له لحياديته وموضوعيته مع الجميع فلم يكن له مقربين او جواسيس ولم يقع بفضائح وأخطاء وكان الجميع يتعامل معه بمسؤولية واحترام والمقربون منه ( أبو صارم ، رياض قاسم ، غالب زنجيل ، موحان الظاهر ، أكرم أبو لينا ، جبار اطراد ، المصممون وفي مقدمتهم نجم كونه يختم التصميم5 ) وكل الكادر في المسائي الذي كان يلتقي معهم كل يوم لوضع البصمات الأخيرة على الجريدة قبل إرسالها للفرز والطبع لم يجدوا منه غير المهنية والعدالة في المعاملة باحترام وتقدير ، وقد لا يصدق من يقرأ هذه الكلمات إنني ورغم علاقتي به المستمرة التي امتدت لعدة سنوات لم أسجل عليه خطا واحد لا من ناحيتي ولا باتجاه الغير وكان يتعامل مع أخوته ( عامر ، عرفان ) كما يتعامل مع الجميع ويرفض إن يفضلوا نفسهم ومصالحهم على الآخرين .

كانت آخر لقاءاتي به هي أثناء العمليات العسكرية التي قادتها أمريكا ضد العراق تحت عنوان ( التحرير) حيث انتقل موقع الجريدة من موقعه المعروف ( شارع 62 ) إلى باب المعظم في موقع المطبعة نظرا لنقص الوقود وخوفا من تعرض المقر لقصف التحالف الدولي ولانقطاع الاتصالات ، حيث استمرت ( العراق ) بالصدور وتقلصت صفحاتها إلى 8 ثم أصبحت 4 صفحات لدرجة انه طلب مني إن تكون مقالاتي بعدد محدود من السطور ، ورغم شدة القصف وكثافة العمليات لم أجده خائفا في وقت من الأوقات وكان مصرا على استمرار إصدار الجريدة رغم إن الأسواق والشوارع تكاد تكون خالية من الحركة وتواجد الناس ، وحين كنت اسأله لماذا الإصرار على الاستمرار في الإصدار ومبيعات الجريدة وتوزيعها وإعلاناتها شبه متوقف وأنت في جريدة ليست حكومية مثل الثورة والجمهورية والقادسية كان يجيبني في كل المرات ( نحن نصدر لنثبت إننا كشعب وإعلام وصحافة موجودين ما دمنا أحياء وان متنا فكل ما يصدر هو للتاريخ ) ، وكنت اسلم له مقالاتي فيقراها وينشرها في ظل غياب العديد من الكوادر الذين تقطعت السبل للوصول للمقر الجديد ، وبعد اشتداد المعارك ووقوع الاحتلال والدخول إلى بغداد انقطعت لقاءاتنا كما انقطعت أخبار اغلب من نعرفهم ، وبعد 9 نيسان 2003 بأيام التقيت بالسيد غالب زنجيل عند زيارتي له بمنزله خلف جريدة الجمهورية حيث حصلت على وقود للتنقل بسيارتي الخاصة وسألته عن مصير وأخبار الجميع وأعلمني بأنها مقطوعة نظرا لقطع الاتصالات وفرض حظر التجوال ببعض المناطق او الأوقات وصعوبة الوضع الأمني وانتشار السلب والنهب خاصة وانه لا يملك وسيلة للنقل ، واتفقنا إن نتفقد أحبائنا مادام الوقت نهار فزرنا رياض قاسم في منزله في شارع فلسطين كونه يشكل حالة إنسانية لأنه أب لثلاث بنات يتيمات الأم وهو اقسم بإن لا يتزوج قط ، وبعد أن تفقدنا أحواله وأحوال عائلته أعلمنا بأنه على علم بوجود نصر الله الداوودي في نفس المنطقة أي في شارع فلسطين ولم يعرف المكان بالضبط سوى دلالة ذكرت له من الأصدقاء ، وخرجنا نبحث عنه من خلال مكان الدلالة الذي يعرفه ، وبعد جهود وصلنا للمكان المطلوب واستقبلنا أخوة نصر الله ( أبو شيلان ) وبعد أن تعرفوا علينا وعرفوا برغبة أبو شيلان باستقبالنا التقينا به وكان متماسكا كما عرفناه في وقت السلم ولم تغيب عنه الابتسامة وروح الدعابة ، ولسهولة وصولنا للمكان الذي هو فيه نصحناه باختيار مكان آخر لانفلات الوضع الأمني ولكنه رفض ذلك وقال أنني الآن اخرج واذهب حيث أشاء فانا لست مطلوبا ولم ارتكب جرما او فسادا في يوم وعلاقتي مع الكرد ليست في حالة حرج تستوجب الاختفاء ، ودارت أحاديث قصيرة معه حيث اختصرنا الوقت لوجود ضيوف في بيته وخشية أن يضيق بنا الوقت ويبدأ الظلام حيث كانت تنتشر الجريمة بالمجان ، ودعناه على أمل اللقاء به إذ وعدنا بان نعاود اللقاء وان نلتقي لنناقش ما يمكن إن يقوم به من عمل مهني بما يتماشى مع الظروف الحالية وما سترافقها من متغيرات ، وكانت تلك المرة الوحيدة التي لم يوفي بها نصر الله الداوودي ( أبو شيلان ) بوعده كما عودنا منذ سنوات حيث كان وفيا حافظا للعهد ، فقد وردنا خبر وفاته بالطريقة التي يستطيع غيري وصفها بالتفصيل لأني لا اعلم منها غير التوقعات ، وآخر لقاء جمعنا معا كان دون حضوره وبالضبط في احد مجالس الفاتحة التي أقامها لها أخوته وأهله رغم قسوة الظروف بكل وفاء ، لقد غاب عنا أبو شيلان جسدا ولكنه حاضرا معنا في كل الأوقات عملا والتزاما وخلقا وروحا وشرف الكلمة والمحافظة على العهود وسيبقى رفيقا لنا في كل الدروب .

ملاحظة : بعض الأسماء التي ذكرت ( أبو صارم ، غالب زنجيل ، رياض قاسم ، موحان الظاهر ) قد توفاهم الله بقدرته وأمره ولكني لم اذكر كلمة ( مرحوم ) عند ذكرهم لأنهم كانوا أحياء في سرد سيرتهم ولأنهم لا يزالون أحياءا في ذاكرتي ، نسال الله العلي العظيم الرحمة للراحل نصر الداوودي حيث تمر 19 سنة على رحيله والرحمة للموتى من الزملاء والأصدقاء والعراقيين جميعا ، ونسأله تعالى الحفظ للعراق لأنه اكبر من كل العناوين .

باسل عباس خضير

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here