عجبت بالشعب الالماني الذي يقدس قوانين بلاده ؟

عجبت بالشعب الالماني الذي يقدس قوانين بلاده ؟ بقلم د. رضا العطار

القانون تاج النظم السياسية، والالتزام يكون فعالا اذا شمل الجميع، فلا فرق بين حاكم ومحكوم. ان ما ادوًنه من ملاحظات ماهي إلا قصص واقعية شاهدتها بأم عيني عندما كنت في منتصفات القرن العشرين مقيما في المانيا، تتعلق بالخصوص التزام الشعب الالماني بالقانون، اتمنى ان يقتدي شعبنا العراقي نهجهم. .

يحتاج العراقي الى ان يترك محيط عمله مرة في السنة لبعض الوقت إن امكن، ليتسنى له الفرصة الكافية للتعرف على بلد آخر، يدرس عادات وتقاليد اهله واسلوب حياته عن كثب فضلا عن تجديد عافيته بغية الحفاظ على صحته يجعل فترة اقامته هناك خلوة فكرية، تكسبه صفاء ذهنيا تمكنه من استيعاب القيم الاخلاقية والروحية ومقارنتها بما هو سائد عندنا.

عام 1962 كنت في السنة الاخيرة لدورة الاختصاص في طب وجراحة العيون في المستشفى الجامعية في برلين، وقد جرت العادة ان تعلم ادارة المستشفى في بداية كل عام، تاريخ اجازات الاطباء السنوية، ولم يكن في علمي بان هذه الاجازة مرتبطة بشروط قانونية.

وفي احد الايام زارني في مقر عملي طبيب عيون الماني وقال لي : اني عازم على السفر لمدة شهر كامل، واروم بان تقوم بأدارة عيادتي الخاصة خلال هذه الفترة واني مستعد بان ادفع لك ما تريد، ماذا تقول ؟ وبعد تفكير قصير قلت له ساعطيك الجواب غدا، وفي اليوم الثاني اسمعته موافقتي وتم التوقيع.

وفي الوقت والعنوان المعين كنت امام عيادة الطبيب الغائب واقفا، كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا وهذا هو الوقت المألوف للعمل في العيادات الخاصة، لكنني فوجئت بان الباب كان مغلقا، انتظرت بعض الوقت لكن دون جدوى وعند طرقي للباب خرجت السكرتيرة وبشاشتها تعلو محياها مرحبة وقالت : لقد اغلقت الباب بعد ان دخل الى العيادة العدد المطلوب.

باشرت بالعمل حالا، كان فحص المرضى يتم بكل سلاسة وانسيابية،

وفي احد الايام شكى لي مريض انه فقد بصره في ذلك النهار في العين اليمنى .

وبعد فحص عابر اخبرته انه مصاب بانفصال الشبكية وعليه ان يخضع للعملية الجراحية في اسرع وقت، وزودته بخارطة المرض يسلمها لطبيبه المعالج، فسألني عن عنوان المستشفى، فقلت له عليه ان يبحث عن العنوان بنفسه وغادر.

وفي صباح اليوم التالي قرع جرس الهاتف، وقالت السكرتيرة: دكتورالنداء يخصك،

كان على الخط استاذي في المستشفى الجامعي، فلما حييته لم يرد انما انفجريعنفني غاضبا، ولم يسمح لي بالكلام بل امرني بالمجيء اليه فورالانتهاء من الدوام فتوجست شرا.

كان من سوء طالعي ان المريض الذي كان يبحث عن مستشفى، لم يجد ضالته بين عشرات المستشفيات في المدينة الكبيرة، إلا تلك التي كنت انا اعمل فيها.

ذهبت الى الاستاذ بعد الانتهاء من عملي في العيادة في الوقت المعين مقهور العواطف، لكن الاستاذ استقبلني بهدوء واشارعلي بالجلوس وقال لي : طلبت حضورك كونك اخترقت حرمة القانون، ولما سمعت هذه العبارة فزعت، فهذا يعني اني خالفت امرا خطيرا.

واضاف : نحن اعطيناك اجازة شهر براتب كامل، بهدف الاستجمام والراحة بغية استعادة نشاطك لتغدو اكثر حيوية واوفر انتاجا ولم يكن مسموحا لك ان تهدر طاقتك في عمل جانبي ثم تأتينا وانت متعب وغير مؤهل للعمل في اداء الواجب..

لم اكن اعلم بكل هذا وعندما علمت بجسامة خطئ، عبرت للاستاذ عن بالغ اسفي واعتذاري مؤكدا له عدم علمي بشروط هذه الأجازة.

قال : علينا ان نعمل لمعالجة الازمة. هاك بالقلم و أطلب أجازة لخمسة عشر يوما بدون راتب، تقضيها في منتجع سياحي ومن هناك ترسل الينا كارت .

بعد ان ارتسمت في رأسي جدًية ما حدث، اتخذت قرارا لا راد له، هكذا توجهت نحو محطة القطار الذي نقلني الى هامبورع، ومن هناك تحولت الى احد منتجعاتها السياحية في الشمال واستقريت في احد فنادقه. كانت الاحداث التي ستجري خلال اقامتي هناك خارج نطاق التنبأ، كانت الفترة التي قضيتها في المنتجع حافلة بالاحلام لن اكن اتوقعها.

كان المنتجع متربعا على صدر الساحل الجنوبي لبحر البلطيق كانت زرقة مياه البحر وروعة جماله تمتد امامي حتى تختفي وراء الافق البعيد، كانت الطبيعة جنة خضراء اشجارها اليانعة اوراقها النضرة، تتغنى، تحيطني من كل جانب. افكر احيانا ان من الممكن ان يكون للأشجار ايضا نوع من الشعور بذاتها، فهي تحس وتبتهج بالحياة

كان تيار البحر المتقدم، يحمل معه شذى نسائمه العطرة تنعش النفوس، ومن خلال رؤيتي للمشهد الساطع الأخاذ، تجلى لي بوضوح ان حسا انسانيا تدفق في داخلي جعلني مدهوشا ازاء جمال الكون والحكمة البالغة في وجود الأنسان !

فسرني ذلك سرورا عظيما

نهضت صباح اليوم التالي من النوم وفتحت نافذة غرفتي، وإذا بي ارى الدنيا ضياء ينشر نوره في الارجاء وهاجا، كانت اشعة الشمس المشرقة دافئة. كانت نسائم البحر العذبة مشبعة بروائح الربيع الشذبة، كل شيء كان يبدو لي في حلة وردية، كانت اشجار الفصل مرصعة بالزهور البيضاء كأنها فصوص الماس، مثلما كانت شتلات الورد وضفائر الازهار تملئ حدائق منتزهاتها، كما كانت طرقاتها مزدانة بنافورات المياه و تماثيل الرخام الجميلة، كانت الطبيعة خلابة لدرجة انها غدت للناظرين كأحد رياض الجنة. كنت مغتبطا بتواجدي في ذلك المكان.

كنت استهل برنامج اليومي بالنهوض في الصباح الباكر وبعد قضاء اوطار الاستجمام وتناول طعام الفطور، اسرع لرياضة المشي، اتمتع خلالها في استنشاق هواء البحر الصافي، ذو النقاوة المنعشة، اكر بعدها راجعا الى الفندق وادخل حوض السباحة اقضي فيه وقتا كافيا، ثم اجلس في احد كراسيه المريحة استمتع في شرب قهوة الصباح متطلعا الى ان يحين موعد طعام الغذاء.في الصحف المحلية لذلك النهار

اما عصرا وبعد تناولي الشاي اشارك جموع السائحين تجوالهم التقليدي في كورنيش الساحل على طوله، منتظرين بفارغ الصبر رؤية الغروب وروعته وما يحدثه الغسق في سماء افق البحر من الوان زاهية جذابة.

وفي صبيحة احد الأيام المشرقة وانا اتهادى على جرف الشاطئ حافي القدمين منتشيا ببرودة ماء البحر، تطلعت الى صياد عن بعد ودهشت عندما شاهدته انه يرمي بالسمكة التي اصطادها الى الماء ثانية. بدات الافكار تروج في خاطري وفضول المعرفة يغلي في صدري مما جعلني ادنو من الصياد محيًا اياه سائلا سره.

قال : ان القانون يقضي بالاّ نصيد سمكة لو قلً طولها عن 18 سنتيمترا، والسمكة التي ارجعتها الى الماء كانت اقل من ذلك. فسألته ما الضير لو اخذتها الى اسرتك ؟

اجابني : ابني يعلم بذلك ويزعجه ان يعرف اني خالفت القانون.فشكرته ومضيت .

.

وفي احد الايام عندما كنت في مطعم الفندق اتناول طعام الغداء تعرفت على مواطن الماني كان يشاركني مائدة الطعام، كان الرجل في منتصف الستينيات من عمره. سألني بأدب جم عن اسم بلدي. فلما اجبته قال آه، بلاد بابل العتيدة ، امنيتي زيارتها ورؤية آلاثار التاريخية فيها. فأعلمته باني راجع الى العراق قريبا وسأكون في عونه ان جاء.

قال لي: سأتقاعد من وظيفتي بعد ايام، وبهذه المناسبة تقوم اسرتي هذا المساء باحياء حفلة في صالة الفندق، وسوف يسره حضوري كثيرا، فشكرته دعوته.. .

فلما حضرت، استقبلني صاحب الحفلة بكثير من الترحيب والتهذيب و سعدت ان ارى علائم الغبطة والسرور تغمر الضيوف، وكأن ريحا من المرح قد عصفت بهم جميعا، كان الحضور يعلم بان هذه الحفلة هي حفلة تقاعد ولم يخطر بخلد احدهم غير ذلك. ولكن الامر لم يكن كذلك.

إذ فوجيء الحضورعندما اعلن المضًيف في كلمته الترحيبية ان الحفلة لا تتعلق بالتقاعد انما تتعلق بشخصه، هو بالذات. يحتفل كونه خدم الدولة ثلاثين عاما ولم يتأخر خلالها عن الدوام يوما واحدا .

وتابع موضحا : (كنت اخرج صباحا في تمام الساعة السابعة مستعملا دراجتي الهوائية لمدة عشرة دقائق الى ان اصل الى محطة القطار الذي كان يسير بي 30 دقيقة حتى يقف عند ساحل البحر، واخيرا اركب العبّارة لسبعة دقائق حتى اصل الى جزيرة الوعول، ثم امشي خطوات عبر الشارع وادخل دائرة عملي قبل بدأ الدوام بلحظات، كان المتكلم يقف امام ضيوفه فاتنا متأنقا ! .

وبعد الانتهاء من كلمته وقف الحضور(اجلالا)، يصفقون طويلا رافعين كؤوسهم يهتفون : برافو ، برافو، فهذا يقول على نخب المواطن الجيد، وذاك يقول على نخب حامي القانون والأخر يقول على نخب الموظف النموذج . . .

لقد انعقد لساني دهشة. شاركت الجمهور افراحهم ظاهريا، اما في حقيقتي فكنت غير ذلك، إذ ان خواطري طارت الى العراق وتذكرت حال شعبنا حيال قوانين بلاده، فخيم على قلبي احساس عميق بالحزن بعدما ترسمت الصورة في خيالي ان العراقي لا يعطي لقواني وطنه الاحترام اللازم .

مرت ايام الاجازة بكل انسيابية، وانا بعيد عن صخب المدينة وجو العمل، كانت نفسي مبتهجة وقلبي يلهج بالفرح، وقد امتلئت روحي بالسكينة والطمأنينة. كنت اشعر انني اقضي ازهى لحظات يومي، متنعما براحة البال والهدوء الذي يفضيه علي المكان . اما سحر الجمال الذي اراه في الكائنات، فإنها لغز محير، لكنني اتحسسه واتذوقه ، بل اشعر انني المسها واتلذذ بها ، سعيدا اني حُظيت بحياة زاهرة اعيشها.

كان من عادتي ان اجلس عصر كل يوم، في ركن هادئ من الفندق اشاغل نفسي في قراءة كتاب. وفي احد الايام وبينما انا كذلك واذا بفتاة حسناء تأخذ مكانها بجانبي.

(في جواري اتخذت مقعدها، كوعاء الورد في اطمئنانها ـ نزار قباني)

وعندما ادارت الفتاة وجهها نحو الكتاب محاولة منها رؤية عنوانه، التقت عينانا عفوا فإبتسمنا وتعارفنا، كانت الفتاة مشرقة الوجه مرحة المزاج خمرية اللون. طالبة جامعية من بافاريا في الجنوب، كانت شهيتنا الى عذب الحديث مفتوحة، والذي استمر الى آخر النهار، ولم يمض وقت طويل حتى صار احدنا ظلا للأخر . وعندما جاء الليل شاركنا ضيوف الفندق سهرتهم المسلية وفعالياتهم الفنية بشطر كبير. .

واجتمعنا صباحا حول مائدة طعام الفطور، وفي معرض الحديث اخبرتني الفتاة بوجود بحيرة على مقربة من الفندق يمكن الذهاب اليها مشيا. فقلت لها: اذن هيا بنا

وصلنا البحيرة على مهل. كانت البحيرة كبيرة، يتعذر تقدير سعتها، وبفضل صفاء مائها الزلال، كانت الاعشاب المائية في جوفها جلية ظاهرة للعيان..

. كان شاطئ البحيرة محاطا بصخور حادة وعرة. ورغم ان المنطقة كانت شبه صحراوية قاحلة، إلا انها كانت تعتبر منطقة سياحية، كنت بحاجة الى الراحة، هكذا أنحنيت على سجيتي على صخرة، اقلعتها من مكانها و أثبتها بشكل يصلح للجلوس وقلت للفتاة اقعدي ! ، وقبل ان تمتد يدي الى الصخرة الاخرى فوجئت بأن الفتاة غدت قلقلة، تسترق النظر في الاطراف وتقول حقا محظوظ انت، سألت الفتاة عما جرى وما علاقة الحظ بالصخرة ؟ قالت :

(تعتبر المنطقة هذه منطقة محرمة، والقانون يمنع تغيير معالمها. وانت غيرت هذه المعالم بتغيرك موضع الصخرة، فلو كان البوليس شاهدك لسجل عليك دعوى قضائية).

وهنا اتوقف عند هذا الحد واقول : ان الحكايات الاربعة التي سردتها، حقيقة واقعة، فسواء ما جرى لي من سجال مع البروفيسور او حديثي مع الصياد او ما شاهدته في حفلة التقاعد واخيرا قصتي مع هذه الفتاة حول موضع الصخرة. لهي دليل قاطع لطبيعة الشعب الالماني في تقديسه للقانون. وشغفه في تطبيق مفرداته. فاحترام القانون عندهم واجبا جليلا، علما ان بعض قوانينهم كانت قد سنت زمن المستشار بسمارك.

هذا هو السر في نجاح هذه الأمة وتفوقها الحضاري في شتى المجالات.

.

اجازتي السنوية. ولم اعلم في حينها ان الاجازة المفروضة على الطبيب مقيدة بضوابط قانونية. انما كنت مقتنعا بان صاحب الاجازة له الحق المطلق في ان يتصرف بأجازته كيفما يشاء.

زارني في مقر عملي احد الايام طبيب عيون الماني معروف سائلا اياي :

علمت انك تعمل في عيادات اطباء العيون بالوكالة. قلت وهو كذلك. قال:

اني اروم القيام بسفرة حول العالم خلال شهر تموز القادم. وارغب من حضرتك أدارة عيادتي بدوام كامل، وانني مستعد ان ادفع لك ما تطلبه.

قلت له: دعني افكر في الأمر وسأعطيك الجواب غدا، فشكرني بادب جم و غادر.

كان برنامج حياتي، العودة الى الوطن بعد اكمال الدراسة. وكان في نيتي شراء بعض الأجهزة الطبية للعيادة التي سافتتحها في العراق، وبعد مراجعة حسابية علمت بان المبلغ الذي سأطلبه من الزميل، سوف يحقق لي الهدف. وعندما جائني في اليوم التالي، اعلمته بموافقتي وتم التوقيع.

ذهبت الى عيادة الزميل في الوقت والمكان المعين لكني وجدتها مغلقة، فأستغربت، وعندما طرقت الباب، خرجت السكرتيرة وسألتني : الطبيب الوكيل ؟ قلت لها نعم، حينها قالت ـ صباح الخير وبشاشتها تعلو محياها وقالت: غلقت الباب بعد ان دخل العيادة عشرون مراجع وهو العدد المحدد.

بدأت العمل بفحص مرضى العيون واحدا بعد الأخر بكل هدؤء وأنسيابية. ومرت الايام متتابعة وانا ناعم البال فلم يحدث ما يعكر صفو العمل. لكن في احد الايام عندما شكى لي احد المراجعين بانه فقد الرؤيا في احدى عينيه فجأة، وبعد الفحص قلت له: انك مصاب بانفصال الشبكية وتحتاج الى مداخلة جراحية بأسرع وقت ممكن. فسألني عن عنوان المستشفى، قلت له، عليك ان تبحث بنفسك عن المستشفى، وزودته بمخطط يحدد موقع الأصابة، وطلبت منه ان يسلمه الى الجراح الذي سيقوم بمعالجته.

وفي اليوم التالي قرع الهاتف، وعندما رفعته السكرتيرة وتكلمت، شحب وجهها وبدت منزعجة وقالت: النداء يخصك دكتور. لقد كان على الخط استاذي البروفيسور كليمنس، رئيس المستشفى الجامعي التي اعمل فيها، وعندما قلت له الو، صرخ غاضبا، معنفا اياي ولم يسمح لي بمقاطعته بل طلب مني الحضور فور الانتهاء من دوام العيادة واغلق الهاتف.

لقد كان من سوء طالعي ان المريض الذي مضى يبحث عن مستشفى، وعدد المستشفيات في المدينة الكبيرة بالعشرات قد وجد ضالته في نفس المستشفى التي اعمل انا فيها … ذهبت الى الاستاذ بعد انتهاء دوام العيادة وانا في شبه ذهول لا اعلم ما الخطأ.

قابلني الرجل بوجوم وقال لي: اسمع دكتور اني طلبت حضورك لانك خرقت حرمة القانون. وعند سماعي هذه العبارة فزعت، فهذا يعني اني أقترفت ذنبا. وأضاف نحن نعطيك ثلاثين يوم اجازة براتب كامل بهدف السفر الى منتجع سياحي كي تستعيد قواك، وتكون بعد ذلك اكثر حيوية ونشاطا في عملك ولم يكن القصد من ذلك ان تهدر طاقتك في عمل جانبي بهدف كسب المال، ثم تأتينا وانت متعب، القانون عندنا لا يسمح بذلك، ففي هذه الحالة لا يمكنك الاستمرار في عملك.

لقد عبرت للاستاذ عن بالغ اسفي واعتذرت، قال: اننا مقتنعون بحسن نواياك وعدم علمك بخفايا الامور، وليس لنا الا ان نتعاون على معالجة المأزق. هاك القلم و أطلب تمديد أجازتك خمسة عشر يوما بدون راتب لأسباب خاصة، عليك ان تقضيها في منتجع سياحي، ومن هناك تزودنا بما يثبت وجودك هناك.

بعد ان اكملت المدة المقررة لادارة العيادة ذهبت الى محطة القطار وتوجهت الى هامبورغ. ومن هناك انتقلت الى المنتجع السياحي المطل على بحر البلطيق واستقريت في فندقه.

كان الموسم يشرف على فصل الخريف، كانت المدينة الصغيرة نظيفة براقة، فشجيرات شارع الكورنيش قد رصعت بالزهور البيضاء كأنها فصوص الماس، واخرى تفتحت وفاح عطرها وانتشر الشذى، أما نباتات الزينة التي تجمل الارجاء فكانت نضرة تتفجر خضرتها من فرط الحياة. اما الطرقات فكانت تزخر بأحواض المياه العذية، تحيطها تماثيل الرخام، يتدفق من نافوراتها الماء عاليا، تجعل الهواء نديا منعشا، باعثا البهجة والسرور.

وفور وصولي عملت لنفسي برنامج عمل : فكنت انهض في الصباح الباكر، وبعد الاستحمام و تناول طعام الفطور اخرج الى ساحل البحر، الموازي لكورنيشه الجميل، امارس فيه رياضة المشي حافيا عند ساحل البحر استمتع ، بشم نسائم البحر العبقة وفي رؤية جمال الطبيعة ولذة الاحساس بالوجود . كانت المشاهد من حولي تبعث في نفسي السكون تحث على التأمل، الغذاء الروحي لابد لي منه نصيب. وبعد انقضاء فترة الضحى كنت اعود الى الفندق وانزل في حوض السباحة النظيف مستفيدا من الرفاهيات التي هيئتها الحضارة العصرية. بعد ذلك اتناول طعام الغداء واذهب الى الزاوية الخاصة للكتب السياحية استعرض صحفها اليومية. اما عصرا وبعد تناولي الشاي كنت اغادر الفندق كي اشارك جموع المصطافين تجوالهم التقليدي في شارع الكورنيش الممتد على طول رصيف الساحل وهم يستمتعون بنقاوة الهواء القادم من الشمال عبر مياه البحر. منتظرين منظر الغروب وبهاء الشفق البديع وما يرسمه في صفحة السماء من الوان متناغمة زاهية. أما بعد فترة العشاء فكنت استمتع بشطر وافر من ساعات الليل مع ضيوف الفندق وما تقدمه ادارته من فعاليات فنية مسلية.

وفي صبيحة احد الأيام المشرقة وبينما انا اتهادى على رمال الشاطئ مسترخيا منتشيا بماء البحر الرقراق واذا بي اشاهد من بعيد صيادا، وقد صاد سمكة، لكنه عاد ورمى بها في البحر. فكان عمله هذا مثارا للعجب. فلم استطع مغالبة حب الفضول، فدنت من الصياد على مهل، محييا اياه وقد ناشدته ان يكشف لي سره. وعندما بدأ بالكلام علمت من لهجته انه ذو ثقافة متواضعة، فهو من سكنة احدي المناطق الفلاحية القريبة من الساحل. قال:

( ان تعاليم نادي الصيد لمنطقتي تقضي الاّ نصيد سمكة لو كان طولها اقل من 18 سنتيمترا، لكن السمكة التي ارجعتها الى الماء كانت 15 سنتيم: اريدها لأسرتي، و لي ولد صغير، وهو يعلم ذلك جيدا، وقد يميل الى ان يلقي علي درسا في الاخلاق ويقول: كيف تنتظر مني يا ابي ان احترم القانون في الوقت الذي انت تعمل عكس ذلك ؟

فشكرته ومضيت.

وبينما كنت اتناول الطعام في المطعم ظهرا تعرفت على مواطن الماني وقور، انه كان في اوائل الستينيات من عمره. سألني بأدب جم عن موطني. فلما قلت له من العراق، تنهّد مستبشرا وقال: بلاد بابل القديم، كانت امنيتي زيارة بلدكم الحضاري ورؤية آلاثار التاريخية. فأعلمته اني راجع الى العراق قريبا وسوف اكون في عونه ان جاء، فاردف قائلا : في مساء هذا اليوم عندي مناسبة، ان افراد اسرتي ينظمون لي حفلة في صالة الفندق مع جمع من الاصدقاء.

دخلت الصالة في الوقت المحدد، استقبلني مضيفي باحسن ترحيب. كانت مظاهر الفرح متجلية في وجوه الحاضرين وقد زينت صالة الفندق بمصابيح الزينة واشعلت الشموع، كان ظني ان يكون سبب الاحتفال مناسبة عيد ميلاد، لكنني لم اكن مصيبا. وكذلك عندما اعلمتني زوجته ان الحفلة هي بمناسبة تقاعده عن العمل. كانت هي الأخرى غير مصيبة في رأيها. فقد اعلن الرجل اثناء ترحيبه بالضيوف ما لم يكن في الحسبان، قوله :

ان الحفلة ليست بمناسبة عيد ميلادي ولا بمناسبة تقاعدي عن الوظيفة كما اعتقدت زوجتي الحبيبة، وانما بمناسبة حكايتي مع سنوات خدمتي التي بلغت ثلاثون سنة بالكمال والتمام. لم اتخلف خلالها عن العمل ولا يوما واحدا ! حتى انني لم اتأخر عن الدوام ولا دقيقة واحدة، فانا فخور بهذه المواظبة في سبيل الاخلاص في الوظيفة !

وهنا وقف جمع الحضور اجلالا، يصفقون له طويلا، بعدها رفعوا الكؤوس، ليشربوا على نخبه وبدأوا يهتفون عاليا: فهذا يقول على نخب رجل الدولة النموذج وذاك يقول على نخب حماة القانون وغيره يقول على نخب الموظف القدوة، بينما ذهب الاخرون يردد عبارة ( برافو ). فالألمان يحترمون المواطن الذي يؤدي واجبه على الوجه الاكمل. .

وعندما هدأ الحضور، استطرد المحتفى به قائلا : ( كنت اخرج صباحا في تمام الساعة السابعة مستعملا دراجتي الهوائية على نحو 10 دقائق، لأصل بها محطة القطار الذي كان يسير بي 30 دقيقة حتى يوصلني الى ساحل البحر لأخذ العبّارة بعد دقيقتين التي تبحر في موعدها المحدد لأصل الى جزيرة الوعول بعد 12 دقيقة. ثم امشي خطوات عبر الشارع لأدخل الى دائرة عملي قبل بدأ الدوام بدقائق معدودة. .

وبعد انتهاء الحفل خرج الجميع مبتهجين الا انا، فقد غمرني حزن عميق دون ارادة مني حيث تذكرت العراق الوطن وحال اهله.

مرت الأيام في المنتجع السياحي هادئة ناعمة بعيدة عن صخب المدينة وجو العمل، انها كانت ايام حلوة، عشتها وانا مرتاح البال متنعما برغد الحياة ومفاجآته السارة.

كان من عادتي ان اجلس وقت العصر في ركن هادئ من الفندق اشاغل نفسي في قراءة كتاب. وفي احد الايام وبينما انا كذلك واذا بفتاة حسناء تأخذ مكانها بجانبي بكل خفة ورفاهة، كدت لا اشعر بحضورها، واذا بها تدير وجهها الجميل نحو جلد الكتاب، في محاولة خجلة لمعرفة عنوانه، كانت هذه الأيماءة مدعاة لفتح باب التعارف بيننا، وعندما التقت عينانا، تذكرت العبارة التالية : ( هذه فاتنة الدنيا وحسناء الزمان ) انها كانت وضاءة المحيا، رشيقة القد، خمرية اللون، جامعية من مقاطعة بافاريا في الجنوب. وبعد دقائق معدودة اصبح احدنا ظل للاخر.

وعند المساء، تناولنا طعام العشاء في مطعم الفندق سوية، وعندما حان موعد السهرة، تحولنا الى قاعة الرقص، التي سرعان ما امتلأت بالرواد، حقا انها كانت سويعات حلوة من العمر مرت مسرعة، تجلت بالمتع الحسية وسعادة الروح.

وعندما التقينا على مائدة الفطور صباحا، اخبرتني الفتاة بوجود بحيرة طبيعية قريبة منا ، يمكن الذهاب اليها مشيا. فقلت لها: اذن هيا بنا

وصلنا البحيرة على مهل كان الطريق عامرا بالمشاهد الجميلة وقد شغلناه باحاديثنا المشوقة.

كانت البحيرة سحيقة في القدم، واسعة الأرجاء، يصعب تقدير مداها، كان منظرها اشبه بالأكواريوم، حيث كانت الاعشاب المائية في جوفها جلية ظاهرة للعيان بسبب صفاء مائها الزلال، ومما زادها بهجة وسرورا اسراب طيور البط ذات الالوان الزاهية. لكن شاطئها كان محاطا بصخور حادة مبعثرة.

ومما جلب انتباهي ان المنطقة رغم كونها منتجع سياحي الا انها كانت شبه قاحلة، في منأى من يد العمران، تتناثر فيها زهيرات البرية، وليس فيها بناء او شجر، كنت متعبا من طول الطريق راغبا ان اجلس واستريح، هكذا أنحنيت على صخرة وعرة، رفعتها من مكانها و ثبتها بشكل يسمح بالجلوس. وقبل ان اعتدل، قلت للفتاة تفضلي واقعدي

لكني فوجئت بان الفتاة قد واتتها موجة من القلق والاضطراب، تسترق النظر بعيدا وكأنها تنتظر شؤما، تردد عبارة: محظوظ !ّ

اصبحت هلعا وتسائلت : وما علاقة الحظ بالصخرة ؟ قالت:

المنطقة ارض بكر، والقانون يحرم تغيير معالمها الطبيعة. وانت بتغيرك موضع الصخرة، غيرت جغرافية الارض، لو كان البوليس شاهدك لسجل عليك دعوى قضائية.

اتوقف في الكتابة عند هذا الحد، لأؤكد للقارئ النبيه بان الأحداث التي سردتها، كانت قصص واقعية عاصرتها بنفسي سواء ما جرى لي من سجال مع البروفيسور داخل المستشفى او حديثي مع الصياد عند شاطئ البحر او حضوري حفلة التقاعد في الفندق او حواري مع هذه الفتاة حول موضع الصخرة، كلها شواهد حية تعكس طبيعة الشعب الألماني في حفظ النظام وحرصه البالغ على اطاعة القانون، علما ان بعض القوانين في المانيا سارية المفعول منذ زمن بسمارك.

وهذا هو السر في نجاح هذه الأمة وتفوقها في شتى مجالات الحياة.

دعونا ايها الأخوة ان نحترم قوانين بلادنا ونصونها. فاذا طاوعنا انفسنا على احترام القانون، ارتقينا في سلم التطور الاجتماعي واكبنا ركب الثقافة العالمية وبالتالي علا شأننا وزاد مقامنا. فصون القانون، كان ولا يزال شارة الشرف.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here