أفلام السيرة “الذاتية” الحياتية

عمر عامر

أفيش فيلم “أيام السادات” (Getty)
حدثان سينمائيان يظهران في المشهدين العربي والدولي مؤخّراً، يُمكن الانطلاق منهما في قراءة العلاقة الملتبسة والمرتبكة بين صناعة الصورة السينمائية ـ التلفزيونية وموضوع السِيَر الذاتية ـ الحياتية لشخصيات عامّة. أولاً: يُثير فيلمٌ وثائقي بريطاني جدلاً حول مدى “صوابية” صناعة كهذه، ومدى قدرة الصنيع على تقديم أصدق صورة ممكنة عن الشخصية المختارة، بتناوله مقتطفات من سيرة المغنية البريطانية أيمي واينهاوس (1983 ـ 2011) في “أيمي” للبريطاني الهندي الأصل آصيف كاباديا (1972). ثانياً، يرفض السينمائيّ المصريّ علي بدرخان (1946) “رفضاً قاطعاً” تحويل سيرة حياة الـ “ساندريلاّ” سعاد حسني (1943 ـ 2001) إلى عمل بصريّ، منتقداً بشدّة المسلسل المصنوع عنها قبل أعوام قليلة.

صورة رسمية

لم يوافق أفراد عائلة أيمي واينهاوس على ما في الفيلم الوثائقيّ من معطيات. يقولون إنه “مخادع”، وإنه “يحتوي على معلومات غير صحيحة”، وإنه “يضيّع الفرصة للاحتفاء بموهبة واينهاوس وحياتها”. يؤكّدون أنهم يريدون أن ينأوا بأنفسهم عن الفيلم، مشيرين إلى أن فيه “ادّعاءات واضحة ضدّ العائلة لا أساس لها من الصحّة، وغير متّزنة”. لكنهم لا يُحدّدون الادّعاءات هذه، مكتفين بكلام عامّ. هذا يؤدّي إلى بيان ـ ردّ من صنّاع الفيلم، يؤكّدون فيه حصولهم على دعم العائلة منذ بداية العمل على المشروع. يُضيفون أنهم “يروون الحكاية بموضوعية كاملة”، استناداً إلى مائة مقابلة مع مائة شخص يعرفون أيمي واينهاوس من أصدقاء، وأقارب، وشركاء سابقين، وزملاء مهنة، وعاملين معها، وغيرهم. يُشدّدون أيضاً على أن القصّة المروية في الفيلم “تعكس حقائق يتوصّلون إليها بفضل المقابلات هذه”.
لا يختلف موقف علي بدرخان ورأيه إزاء أعمال السِيَر الذاتية ـ الحياتية عما تقوله عائلة أيمي واينهاوس. في حوار منشور في صحيفة “العربي الجديد” (18 يونيو/ حزيران 2015)، يعلن رفضه خطوة كهذه: “أنا لستُ مع رصد السِيَر الذاتية بشكل عام”. ويعتبر أن مسلسل “السندريلاّ” (2006) لسمير سيف (1947)، لم يسرد قصّة حياة سعاد حسني، انطلاقاً من ظهوره فيه خائناً لها: “لم أكن يوماً خائناً لها”. يتساءل عن سبب إظهاره هكذا، خصوصاً أن صنّاع العمل يعرفونهما، سعاد وهو، “جيداً”. يُضيف أن أعمال السِيَر الذاتية ـ الحياتية “ليست على ما يُرام”. يُبرّر هذا بقوله إن الأعمال في السينما والأدب تعاني، منذ فترة طويلة، إشكالات عدّة (لم يُحدّدها). برأيه، السيناريست يجعل نصّه “مختلفاً كثيراً عن الحياة التي يعرفها الناس المحيطون بالشخص”. يعتبر أن أمراً كهذا “يجعل الجميع متردّدين في قبول المعلومات أو رفضها”. يُنهي تعليقه بالقول إن أناساً عديدين لا يعرفون شيئاً عن حياة النجوم، فيتلقّفون معلومات خاطئة عنهم بسبب الأعمال السينمائية أو الدرامية هذه.

اقرأ أيضاً: هموم الكتاب السينمائي العربي

ملاحظات عديدة يُمكن إيرادها كخلاصة لموقفي عائلة واينهاوس وعلي بدرخان. هناك ما يُشبه الإجماع الضمني بين عائلات الشخصيات العامة، في العالمين العربي والغربي، على ضرورة إحكام السيطرة على كلّ صنيع فني يتناول سِير شخصيات “تابعة لها”. الغربيون يريدون صورة ناصعة عن العائلة، وإن تمّ هذا بتزوير حقائق، أو بإخفائها على الأقلّ وتجنّب سردها. العرب يخشون الحقائق، فيتّهمون صنّاع عمل فني بالتشويه والافتراء. الغربيون مختلفون قليلاً، لأن لهم ثقافة تربوية مناقضة لما يحدث في العالم العربي. البوح جزءٌ من السلوك التربوي الغربي، وإن ينفضّ أفراد العائلات المشهورة ضدّ كلّ عمل يطال عوالمهم المنغلقة عليهم. أما البوح العربي فمرفوض وممنوع ومغيّب، لأن للعائلات أسرارها، والبوح جرمٌ يُعاقب عليه المرء. غير أن النتاجات البصرية تجعلهم، غالباً، يلتقون معاً عند رفضها إن لم “يُسيطروا” عليها، لأنهم يرون فيها دائماً ما يؤثّر سلباً، بالنسبة إليهم، على صورتهم الظاهرة أو العلنية، إن لم “يتحكّموا” بها.

تساؤلات

لم يُحدّد أفراد عائلة أيمي واينهاوس ملاحظاتهم بشكل واضح ومباشر. علي بدرخان يخشى على صورته. صنّاع الأعمال الفنية المتعلّقة بالشخصيات العامّة يحارون بين رغبة في سبر أغوار سِيَر فاعلين في المشهد العام، كجزء من قراءة فصل من التاريخ بتحوّلاته ومحطّاته ومساراته وتفاصيل العيش فيه ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً، وبين سدود يُقيمها “حريصون” على صورة منقّحة عن “الشخصية” تُشبه “الرواية الرسمية” لهذا الحدث أو ذاك. في الغرب، هناك صعوبة كبيرة، إن لم تكن استحالة، في منع مخرج سينمائيٍّ ـ تلفزيونيٍّ من تحقيق عمل كهذا. النقاش أو الجدل يأتيان لاحقاً. القضاء أيضاً، إذ يحقّ لأفراد العائلة التقدّم بدعوى أمام محكمة ما، إذا تبيّن لهم أن تزويراً فاضحاً لحقائق معينة ثابتة ومؤكَّدة يتضمّنه العمل. يحاول الممثل الفرنسي آلان دولون (1935) منع الصحافي برنار فيولي من وضع كتاب عن سيرته الحياتية. يلجأ إلى المحكمة. يتطلّب الأمر بعض الوقت. لكن النتيجة تكون لصالح الصحافي، الذي يُصدر كتاباً عنه بعنوان “أسرار دولون، السيرة غير المخوَّل بها”، وقد صدرت عن دار “فلاماريون”، عام 2000.
في العالم العربي، يستحيل تحقيق عمل عن شخصية عامّة من دون موافقة مسبّقة للعائلة، التي تذهب بموافقتها ـ أحياناً ـ إلى حدود التسلّط شبه المطلق على العمل، كتابة وتنفيذاً، وربما تمثيلاً أيضاً. أتذكرون “أيام السادات، قصّة أمة” (2001) للمصري محمّد خان (1942)؟ يستند سيناريو أحمد بهجت (1932 ـ 2011) على كتابي “البحث عن الذات ـ قصّة حياتي” (1978) لأنور السادات (1918 ـ 1981) و”سيدة من مصر” (1987) لجيهان السادات (1933). قيل يومها إن عائلة الرئيس السابق تمنع تحقيق فيلم عنه من دون موافقتها، إلى درجة أن كثيرين يردّدون بأن الفيلم “مصنوع” في منزل العائلة. يومها، لم يُوفَّق أحمد زكي، مؤدّي دور السادات في الفيلم، ومنتجه أيضاً، في تبرير الاستناد إلى الكتابين هذين فقط من دون غيرهما: إلى أي مدى يُمكن اعتبارهما صادقين؟ أفيهما الحقائق كلّها، أم أنهما مكتوبان بحسب رغبة كاتبيهما اللذين يريدان التحكّم بما يُقال وبما يُمنع قوله؟ أتذكرون “جمال عبد الناصر” (1999) للسوري البريطاني أنور القوادري (1953)؟ ألم يُهاجَم الفيلم لأن خالد الصاوي (1963)، مؤدّي دور عبد الناصر (1918 ـ 1970)، يظهر في أحد المشاهد مرتدياً ثياب النوم؟ ألم يُهاجَم الفيلم أصلاً لأنه أقرب إلى حسّ إنساني صادق في التعاطي مع عبد الناصر كإنسان، بدلاً من تقديس الشخصية والاكتفاء بتقديم “حسناتها” فقط؟. ماذا عن المسلسل التلفزيوني السوري “في حضرة الغياب” (2011) لنجدت أنزور (1954)، المستند إلى نصّ حسن م. يوسف (1948)؟. كيف يظهر محمود درويش (1941 ـ 2008) فيه: شخصية عامّة فقط، أم إنسانٌ يعيش حياته كأي إنسان آخر؟ ألم تُغيّب حقائق “معروفة” لإظهار الرجل في حلّة إنسانية صافية ونقية؟ أما صباح (1927 ـ 2014) في المسلسل اللبناني المصري “الشحرورة” (2011) لأحمد شفيق عن نصّ لفداء الشندويلي، فتبدو كمن “يمشي” بين الألغام حرصاً على صورة مثالية لها، على نقيض وقائع كثيرة متداولة عن حياتها الفردية؟
أيحقّ لصنّاع عمل فني التطرّق إلى الحميميّ في السيرة الذاتية ـ الحياتية للشخصية العامّة؟ أليس الحميميّ جزءً أساسياً من السيرة هذه، ومن البناء الإنساني والفكري والذاتي للشخصية؟ ماذا يعني تحقيق عمل فني منصبّ على السيرة الخاصّة بالشخصية العامّة؟ ألا يحقّ لمريدي هذه الشخصية أو تلك ومحبيهما الاطّلاع على العالم كلّه المتعلّق بها؟ لكن، في المقابل، ألا يحقّ للشخصية نفسها أن يكون لديها عالمها الخاصّ جداً، وأن تمنع أحداً من الدخول إليه وكشفه؟
لن ينتهي النقاش النقدي المرتبط بالصنيع الفني الخاصّ بسِيَر ذاتية ـ حياتية لشخصيات عامّة. فإذا كان السؤال الأساسيّ كامنٌ في مدى قدرة النتاجات السينمائية والتلفزيونية على تقديم صورة “حقيقية” عن أصحاب تلك السِيَر، فإن السؤال الأهمّ كامنٌ في مدى امتلاك صانعي النتاجات هذه حرية إبداعية في مقاربة السِيَر، وفي مدى الجرأة على تخطّي المعلوم من أجل تبيان المبطّن والمخفي.
عمر عامر
(كاتب لبناني)

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here