السومريون، سكنة مناطق الاهوار، كيف نظروا لظواهر الطبيعة ؟

السومريون، سكنة مناطق الاهوار، كيف نظروا لظواهر الطبيعة ؟ *

د. رضا العطار

كان السومري الذي سكن مناطق الاهوار في العراق القديم، يعتبر الظواهر الطبيعية بالنسبة اليه شيئا حيا، له شخصيته وارادته وذاته المتميزة. إلاّ ان الذات التي تكشف عن نفسها في قطعة من الصوان مثلا لم تكن محدودة بتلك القطعة المعينة، فهي فيها وهي وراءها معا، وهي تحل فيها وتضفي عليها طبيعتها كما تضفيها على كل قطعة أخرى من الصوان.

وبما ان في مقدور الذات الواحدة ان تحلّ في ظواهر فردية عديدة، فإنها قد تحل في ذرات اخرى وتمنحها شيئا من طبيعتها، تضيفها الى خواصها الاصلية.

فكان على الانسان اذا فهم الطبيعة، اي فهم الظواهر العديدة المتباينة حوله، ان يفهم الشخصيات الكامنة في هذه الظواهر، وان يعرف طبائعها واتجاه ارادتها ومدى قواها. وذلك اشبه بفهم الناس الى الأخرين ومعرفة طبائعهم واراداتهم و قوتهم ونفوذهم. وقد راح البابلي مدفوعا بحدسه يطبق على الطبيعة تجربته التي اكتسبها من المجتمع الانساني. والمثال التالي يوضح ذلك : اذ سنرى ان الواقع الموضوعي يتلبّس الشكل المجتمعي امام اعيننا.

كان الناس في ارض الرافدين يعتقدون ان المرء المسحور يستطيع تدمير الاعداء الذين سحروه، عن طريق حرق صورهم او تماثيل لهم. ان ذات العدو البارزة تحدق به من الصورة. ففي وسعه ان يؤذيها كما هي تؤذيه في شخصه، وهكذا يلقي بالصور في النار وهو يخاطب اللهب بقوله :

( ايها اللهيب اللآظي يا ابن السماء المقاتل،… يا من انت اشد اخوتك بطشا … وتحكم في القضايا كالقمر والشمس … احكم في قضيتي وانطق بحكمك … والتهم الرجل والمرأة اللذين سحراني … احرقهما، التهمهما، امسك بهما، ابتلعهما، دمرهما يا لهيب ! )

من الجلي هنا ان المرء يلجأ الى النار لما يعرف من قدرتها على التدمير. ولكن للنار ارادتها وهي لن تحرق الصور – وبالتالي اعداءه – إلاّ اذا شاءت هي. وحين تقرر النار ان تحرق او لا تحرق الصور، فأنها تصبح حكما بين الرجل واعدائه : فيصبح الأمر قضية يشتكي فيها الرجل الى النار ويطلب اليها ان تنتصف له. وهكذا تتخذ قوة النار شكلا محددا، وتفسر تفسيرا اجتماعيا : ان النار حاكم.

فكما تصبح النار حاكما، هكذا تتخذ القوى الاخرى اشكالا معينة في حالات الشدة. فالزوبعة الرعدية مقاتل، يقذف بالبرق المريع ويسمع الانسان قصف الدواليب في عجلته الحربية. والارض امرأة، أمّ تلد النبت كل سنة. ففي مثل هذه الحالات كان أهل ارض الرافدين يفعلون ما فعلته الاقوام الاخرى كلها على مر العصور. يقول ارسطو :

( ان البشر يتصورون ان الالهة تشبههم، وان طريقتها في الحياة هي طريقتهم ) .

فإذا حاولنا ان نجد ميزة خاصة في أرض الرافدين بهذا الخصوص، علينا ان نشدد التأكيد بأن أهل العراق القديم كانوا يرون انهم مرتبطون بقوى اجتماعية منظمة،

يبدو ان الفكر التأملي لسكان ما بين النهرين، قد ابرز سمة المهمة الاجتماعية والسياسية في مثل هذه النماذج ونظمها تنظيما لم يعرف في اي مكان آخر ووسعها الى ان غدت مؤسسات واضحة المعالم. والظاهر ان هذا الفكر الذي كان يربط الانسان الرافدي ارتباطا وثيقا بطبيعة مجتمعه، يستمد منه مصطلحاته وتقييمه.

لقد قلنا ان البابلي عندما جعل الكون يتكامل لعينه، كان يعيش في ديمقراطية بدائية، وكانت المشاريع الكبرى والقرارات الخطيرة تنبثق عن مجلس عام لجميع المواطنين، ولم يكن هناك فرد واحد هو المضطلع بها. فمن الطبيعي اذن، ويموجب هذه القناعة حاول البابلي فهم الاحداث الكونية، وعلى وجه خاص بالطرق التي تنتهجها قوى الكون الفردية في التعاون والتكاتف على ادارة امور الكون. وهكذا تبدو المؤسسات الكونية خطيرة جدا في نظره، ويبدو له ان تركيب الدنيا كان مطابقا لتركيب الدولة.

كان الكون لدى البابليين يضم كل ما في الوجود، بل كل ما يمكن ان يعد شيئا ذو كيان : البشر والحيوانات والجماد والظواهر الطبيعية، وكذلك الفِكَر المجرد: كالعدالة والحق والاستقامة … الخ. وقد اظهرنا كيف ان هذه الكيانات تعتبر كلها اعضاء في دولة ما، لها ارادتها وخواصها وقوتها. ولكن هذه الاشياء وان تكن لها اعضاء في الدولة الكونية، إلاّ انها لم تكن جميعها على مستوى سياسي واحد. وان مقياس التميز بينها كان هو القوة.

كانت في الدولة الارضية فئات كبيرة من الناس لا تساهم في الحكم. فلم يكن للعبيد والاطفال وربما النساء اي صوت في مجلس الشعب, حيث لا يجتمع فيه إلاّ الاحرار البالغون للنظر في شؤون الأمة، وهؤلاء هم المواطنون بالمعنى الحقيقي. ومثل ذلك دولة الكون.

فكان الناس يدعون المواطنين، ذوي القوى الخارقة الذين يثيرون فيهم الرهبة والمهابة بالآلهة، ولهم وحدهم الحقوق السياسية والقدرة على النفوذ السياسي. ولذا كان المجلس العام في الدولة الكونية مجمع للآلهة. ومجمع الألهة هذا نقرأ عنه الكثير في ادب ما بين النهرين، ونعرف بالأجمال كيف كانت تصرف فيه الامور. انه السلطة العليا في الكون، فيه تتخذ القرارات الخطيرة بشأن مصائر البشر وكل ما في الحياة.

لكن قبل اتخاذ القرار كانت المقترحات تبحث وتناقش ولعلها تناقش احيانا بعنف بين المؤيدين والمعارضين من الآلهة. وكان رئيس المجلس اله السماء ( آنو ) يقف الى جانب ابنه ( انليل ) اله الزوابع. فيطرح احدهما الموضوع على بساط البحث ثم يشترك فيه الآلهة جميعهم. و هذا النقاش _ كانوا يسمونه التسائل _ يتوضح فيه كل التفاصيل ويتبين اتحاد الرأي.

وكانت لأصوات جماعة من الآلهة البارزين وزن خاص في هذا التسائل، وهم ( الآلهة السبعة الذين يقررون المصائر ) وعلى هذا النحو يتوصل المجلس الى الاتفاق الجماعي، فيقول كبير الآلهة في النهاية عبارة: ( فليكن )

ثم يعلن القرار كل من آنو وانليل. انه قرار حكم، كلمة مجمع الآلهة.

الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب (الواح طينية، السومريون) لصموئيل كريمر جامعة شيكاغو 1963

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here