العِراق.. الفَرزْدق يُجدد تَحذيرَه!

رشيد الخيّون

كانت حوادث (29/8/2022) الدَّمويَّة ببغداد ليست الأولى ولا الأخيرة، ولولا حدوثها بدار الحُكم، ما ذاع صيتها، وإلا الحوادث مِن أخواتها لم تتوقف نحو عشرين عاماً (2003- 2022)، فحتَّى السَّاعة لم تظهر إحصائيات القتلى، مَن وجد بلا رأس، ومِن صُهرت أشلاؤه، ومَن غُيب كليةً.
حتَّى صار التَّشييع لجنائز رمزية، فارغة مِن الجثامين، يُقتل الأب لرفعه صورة ولده المغتال، مطالباً بدمه عبر القانون، وهو لا يعلم أنّ القانون مغدور مثله. ليت المعركة، في ذلك اليوم، بين الحيتان الزُّرق، على برنامج أو نهج الحُكم، لإنزال الوطن المصلوب مِن على خشبة الجشع، بل جعلوه تسلية لإعلام العالم.
كبر المولودون قبل عشرين عاماً، ولم يروا غير وطنٍ مصلوبٍ، لم يبق لديه ما يُعطي، سلبوا كلَّ شيء، وها هو الشِّجار على النِّعمة التي حلت عليهم، والنِّقمة التي حلت بهم على العِراق. عادت بغداد إلى عصر الغلمان والجواري، والعِراق بات «مقتسم بين وصيف وبغا…»(الصَّابي، تحفة الأمراء)، معارك على توزيع الغِلة، وكانت ثمار أشجار، أما اليوم فوصيف وبغا يقتسمان ما في باطن الأرض وظاهرها، وقوة الصِّراع تقاس بحجم الغنيمة، إنَّه العِراق وثروته. هل عرفتم لهم برنامجاً أو رأياً لدمل جراح البلد المنكوب؟!
أخذوا يحاكون النَّاس بالشّكوى مِن عظمة الفساد، وكأنه نزل بأطباق طائرة، فمَن قال منهم: كلنا أخطأنا، كلنا مسؤولون، وعلينا الاعتزال! لكنَّ رصاص 29/8/2022 أظهرهم كذابين، أتوا جياعاً ولم تشبعهم ثروات الدُّنيا، هناك جائعون يشدون بطونهم حياءً، لكنَّ الخوف مِن جوعى الضَّمائر، أحدهم لا يؤتمن على «ورك قلوص»(ورك صغير النَّاقة)، فكيف يؤتمن على كنوز العِراق، والقول للفرزدق(ت: 110ه)، يناشد خليفة عصره، وقد سلم أمر العِراق لمَن يراه الفرزدق هكذا: «أمير المؤمنين وأنت برٌّ/ أمينٌ لستَ بالطَّبع الحريصِ/ أأطعمت العِراق ورافديه/ فزارياً أحذَ يد القميصِ/ تفهق بالعراق أبو المثنى/ وعلم قومه أكل الخبيص/ ولم يكن قبلها راعي مخاض/ ليأمنه على وركي قلوص»(المُبرد، الكامل في اللُّغة والأدب).
ربَّما ظلم الفرزدق، في مناشدته ليزيد بن عبد الملك(ت: 105هج)، عمر بن هُبيرة(ت: نحو 110هج)، لكنَّ هل يظلم الشَّاعر مَن تسيد باسم الدِّيمقراطيَّة وفضيلة الإسلام؟! مَن انتفخ بمُلك العراق ورافديه، وها هما يجفان؟!
اسألوا عن قصور كرادة مريم(الخضراء لاحقاً) والجادريّة وضواحيها، وعما تركه يهود العِراق ومسيحيوه، اسألوا عن محيط الكاظمية، هل فكر بامتلاكها ابن هبيرة، ومَن قبله وبعده؟! كانوا يحكمون حكم الاستبداد غير العادل، لم يعرفوا الدِّيمقراطيَّة كي يغلفوا بها سلبهم ونهبهم، حتَّى قُبيل(2003)، لم يجعل أحد الدِّيمقراطية ولا الدُّستوريَّة غلافاً لحكمه، بل كانوا يرون العراق تحت أيديهم، لا يحتاجون إلى نقل ثرواته إلى خارجه، أتوا بقوة خيولهم ولمعان سيوفهم، أما هؤلاء فأتتهم مِن دون حِساب، لذا تجدهم يفكرون بانقلاب الحال، ووفق السَّائر «قلب له ظهر المجن»، التَّرس إذا انقلبت صار الصّديق عدواً، وعلى أفعالهم لا يدوم صديقّ ولا حتَّى زبوناً، مِن باعة الدِّمقراطيّة أو باعة الإسلام السِّياسيّ.
يقول في هذا التَّقلب المنتظر عاجلاً، المخضرم معن بن أوس(ت: 64هج): «قلبتُ له ظهر المجنِ فلم أدمْ/ على ذاك إلا ريثما أتحولُ»(التَّبريزي، شرح ديوان الحماسة)، ومِن عادة الخائف مِن قلب المجن لا يبقي ولا يذر! فكأني بالفرَزْدق يُجدد تحذيره مِن التَّفهق بالعراق(التَّوسع بالتَّجاوز) إلى حد إذابته وشعار«ذوبوا» في فلان ما زال مرفوعاً.
* كاتب عراقي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here