لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! ح5، الأخيرة

لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! ح5، الأخيرة * د. رضا العطار

قصة الأم لمكسيم غوركي هي الطراز الذي يمكن ان نقول ان سائر مؤلفاته قد سارت على غراره . فاننا حين ننهض بالثورة على المظالم الاجتماعية التي تمارسها الدولة هي التي تثير في نفوس الشعب الرغبة والاصرار على التغيير.

الثائر هو الناهض اليقظ بعد ركود ونوم , الثائر هو الذي يجد الهدف في العمل بعد الاستسلام للقدر . الثائر يفكر ويتعلم ويتطور. الثائر يجد الدنيا والمجتمع والانسان والعلم موضوع اهتمامه بدلا من تلك الاهتمامات الصغيرة التي تمتلئ بها النفوس الصغيرة في السعي الحثيث الى الثراء والتفوق والجاه.

ان غوركي واقعي , يصف لنا الظلام الحالك في النفوس المريضة التي افسدتها مظالم المجتمع . وهو مع انه يضيف الى هذه الواقعية في اغلب الاحوال أملا في مستقبل مشرق , الا إنه لا يتعامى , عن المصير المحزن واليأس الشامل اللذان يسودان بعض الناس .

وقصة مخلوقات, هي قصة اخرى لغوركي تصف الانهيار النفسي لأولائك الذين صدمتهم الحياة وحطمتهم . فهم ليسوا اناسا وانما هم حطاما من الناس يرتكبون الجريمة , ويجرأون على الفضيحة ويفرون من الزوجة ويحيون حياتهم في ظلام لا يتخلله بصيص من النور او شعاع من الامل بعد ان بددوا ثروتهم الموروثة في الشراب والمفاسد الاجتماعية.

ان العلاج يقتضي ان يولد هؤلاء الساقطون ميلادا جديدا كما ولد الاب البار بافيل على ايدي الشبان الثائرين الذين علّموه هدفا جديدا في الحياة اعم واكبر من الاهداف الشخصية الصغيرة . وحين لا يجد الفرد هذا الهدف السامي انذاك يجد الموت عن طريق الجنون او يجده عن طريق الخمر قبل الموت الطبيعي . .

فالانسان المحروم من الصديق الناصح او الكتاب المنير , ويتعرف الى الدنيا من اسفل. يشرب الخمر وينزق نزق الشباب والقليل الذي يغريه يحمله على التأمل فيمن حوله من اصدقاء السوء , فيجد فيهم صفات الخسة والدناءة والسفالة والغدر, كل هذه الصفات الرديئة تعلوا الى المكانة الاجتماعية المرموقة. و سرعان ما ينكشف انه خسر ماله وغدا متسكعا في الطرقات.

ان ايمان غوركي بالقيم الانسانية لا ينطوي على قدرة الانسان على تغيير الاوضاع الاجتماعية فقط انما يتجاوز ذلك الى تحريره من خرافات القرون المظلمة, العلم الذي يضع البيئة والتجربة مكان العقيدة والتسليم. العلم الذي حين نعرفه ونتحقق من ممتلكاته, نقول : كنا عبيدا , صرنا احرارا . العلم الذي نأمل به ان نرفع دخل العائلة من الاربعين في الوقت الحاضر الى الالف . العلم الذي يبصرنا بأصل الكون و ( نهايته ) . بلا خرافات موروثة.

في سنة 1929 كتب مكسيم غوركي مقالا ذكر فيه حوارا دار بين مؤيد للوضع الجديد وبين احد الخصوم الذي سأل بتهكم : انكم ستجعلون الجبال وديانا . فيجيبه الجندي : أجل بلا شك , اذا ما كانت هذه الجبال تقف في طريقنا . فيقول الخصم : وستغيرون مجرى الانهار : فيقول الجندي : أجل هذا سوف نفعله . سنوجه مياها الى حيث نريد . ماذا يضحك في هذا ؟ . نحن لا نحتاج الا الى الوقت الذي يعيد الى الناس عقولهم , وعندئذ ستنجون انتم من محنة الحياة وتشكروننا على جهودنا . ما الذي كان يقصد غوركي بهذه الاجابات ؟ . كان يقصد ان الدنيا ستتغير بقدرة الانسان . وبالعلم .

ايمان غوركي بالعلم كبير . كتب في عام 1912 يقول : ان العلم اصبح الجهاز العصبي للارض وان الدنيا سوف تتغير.

في احدى الدرامات التي الفها برناردشو يقف احد الاشخاص ويندفع في نقاش يبدي فيه غضبه من اولئك المؤلفين الذين تباع مؤلفاتهم . فإذا فتحت لكتاب وشرعت تقرأ وجدت ما يتعسك من هموم ومشكلات ومآسي يعرضها عليك المؤلف فتحزن وتبتئس او تسخط وتلعن . ويقول هذا الشخص ان المؤلف لهذا الكتاب يجب مقاضاته واسترداد ثمن الكتاب منه لانه باع سلعة مغشوشة . اذ هو يفهم من اقتناء كتاب ما ان مؤلفه يرفه عنه ويلهيه معه ويسليه ويتيح له ان يقضي ساعة سعيدة يقرأ فيها عن الحوادث الطريفة في الاسلوب العذب . اما فعل العكس , وعرض عليه المشكلات الاجتماعية التي تحزنه , فانه يدع غشاشا اخذ ثمن الكتاب بغير حق .

وكثير من قراء الصحف والكتب يطلبون اللهو والتسلية فيما يقرأون . ويجدون من يزودهم بما يطلبون وهم يبقون على هذه العادة طيله حياتهم وضمائرهم منومة في غيبوبة كما ان عقولهم مقفلة لا تستنير . لكن هناك نوعا آخر من الكتب المرة يؤلفها الكاتب المر الذي لا يختار لك ما يحلو وينّوم ويخدر . ولا يستهدف العبارة الانيقة او الاسلوب العذب لانه انما يعالج شأنا اعظم في حلاوة التعبير او لذة النادرة او طرافة النكتة .

عالج غوركي مشكلات اجتماعية خطيرة , فهو بالدرجة الاولى مصلح اجتماعي عظيم لا تروق له ممارسة السياسة, لان في عالم السياسة تجري مظالم كثيرة تحت ستائر براقة , لذلك رفض التعاون مع رجالات السلطة الحديثة . كان يحلم ان يسود العدل الاجتماعي جميع طبقات الشعب. فكتب في هذا الشأن عدة مقالات, فلما لم تلقي اذانا صاغية, ترك بلاده غاضبا الى ايطاليا فارضا على نفسه النفي القسري.

كان مكسيم غوركي لاينفك يثير الغبار ويقتلع العفن الاجتماعي , المتمثل في بعض العادات والتقاليد السخيفة ويفضح الفساد بكل انواعه. بل انه يتعسك لانه يجعلك تقف على ما فيك انت من تفاهة او تراخ او استهتار وانت تخرج وانت قد اثقلت بهموم وطنك ومشاكل مجتمعك اكثر من ذي قبل . فأصبحت تغضب وتسخط او تحزن وتبنئس ولكنك تستنير وتستيقظ . ولعل يقظتك هذه تكون وسيلة لان تتغير وتتطور وترتقي في تقويم نفسك وزيادة انسانيتك واصلاح مجتمعك . وكان مكسيم غوركي منذ ولادته يسمى بغير اسمه الحالي . ولكن بعد كتاباته وشهرته عرف في اوساط الشعب بكنية غوركي وتعني باللغة الروسية ( المُر ) . وعرف ايضا انه كاتب مُر , يعلّم قراءه ويقسوعليهم , حتى يستيقظون . ونحن نقرأ لغوركي لا لنلهو ولكن لنتألم وننتبه ونزداد ذكاء ورجولة.

وفي هذا السياق يقول كاتب السطور : تعتبر مدينة يالطا التاريخية الروسية في الجنوب مدينة سياحية. يتصدر كورنيشها الواسع الذي يعج دوما بالسواح، تمثال برنزي شاهق ضخم يطل على البحر , تدل قسمات وجهه وتعابير اعضاء جسمه على انه كان صاحب شكيمة عالية وقوة شخصية عظيمة، ويضيف بانه كان في ستينيات القرن الماضي سائحا في مدينة يالطا، وهناك عند المساء كان من عادته ان يتجول في كونيشها الجميل متنزها، مستمتعا بعذوبة نسائم البحر وطيب رائحته. وعندما مرً بالتمثال وسأل احد الماره عن اسم صاحبه ! اجاب مزهوّا : انه المعلم مكسيم غوركي.

*مقتبس بتصرف من كتاب (مختارات) للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here