انهض وتعلم، فكر واعمل !

انهض وتعلم، فكر واعمل ! * د. رضا العطار

يقول استاذ الفلسفة د. امام عبد الفتاح امام : لقد استغرقتني هذا الاسبوع قراءة مقال ممتع للفيلسوف الالماني الكبير ايمانويل كانط، المولود عام 1724 عن معنى (التنوير) الذي ساد القرن الثامن عشر والذي عاش كانط في قلبه ولخصه بفلسفته النقدية، فكان اعظم تعبير عنه ! ولقد تُرجم المقال الى اللغة العربية ترجمة دقيقة. ونحن العرب بالخاصة، اشد ما نكون متعطشين الى معرفته، ذلك اننا في مجتمعاتنا ما زلنا حتى الان نكافح لكي نبقى في عصر التنوير الذي بدأ في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر متجها في البداية وجهة ( التنوير الديني ) على يد جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ثم متجها في اوائل القرن العشرين وجهة علمية على يد نخبة من الاباء المصريين، كان سلامه موسى احدهم.

لقد تسربت اشعة التنوير لتضيئ جوانب مختلفة من حياتنا الثقافية: في الفلسفة والادب والفن .. فظهرت حركة شاملة استهدفت النهوض بالحياة الفكرية في كل ارجاء الوطن العربي الكبير. ومن هنا كان من الاهمية بمكان ان نعرف ما المقصود بالتنوير ؟

يعرّفه كانط بانه :

( خروج الانسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله الاّ بتوجيه من انسان آخر … )

بمعنى اوضح كما في رأي كانط هو رفع الوصاية عن الانسان والاعتراف بانه قادر على التفكير المستقل وان من حقه ان يستخدم عقله استخداما حرا بلا خوف ولا وجل !

ومن الطريف ان كانط يلخص عصر التنوير كله في عبارة للشاعر الروماني (هوراس)

تقول: ( تشجع .. على المعرفة !)

وهذه العبارة يمكن ان تكون امرا مطلقا يتوجه به الفيلسوف الى كل انسان مازال يتخبط في ظلمات العصور الوسطى حينما كانت السلطة ايا كان نوعها بيد السلطة الدينية.

فهي دعوة الى التفكير الحر المستقل بعيدا عن الوصاية التي عانى منها الانسان في الفترات السابقة.

والحق انني وقفت طويلا أتأمل هذا الشعار الذي لخص فيه كانط عصر التنوير – (تشجع) على المعرفة – او – ( انهض من السبات واعرف ) واعتمد على الحلول الجاهزة التي يقدمها لك الاخرون واعرب بنفسك و لنفسك. اقول انني وقفت اتأمل هذا الشعار لسببين : الاول اننا ما زلنا في المجتمع العربي في حاجة ماسة الى رفع هذا الشعار وكتابته على جدران كل شارع وتدريسه في كل مدرسة ومعهد حتى ينهض الفرد والمجتمع ! .. لينفض عن نفسه ما ران عليها من جهل وخرافة ويبدد ما حوله من ظلمات وأمّية القرون التي فرضها عليه الحكم التركي البغيض والذي كان يحرم على البلدان العربية الاستفادة من الطباعة طيلة 200 سنة، في الوقت الذي كانت النهضة الاوربية تزدهر بخطى متسارعة بفضل انتشار الطباعة بين ابنائها.

لا تبدأ المعرفة الا نتيجة مشكلة، غير ان المشكلات لا تفرض نفسها بنفسها على الانسان وانما الاحساس بالمشكلة هو وحده الذي يوقظ المعرفة وهو الدليل على بزوغ الروح المعرفية الحقة، ومن هذا قيل ان كل معرفة هي حل لمشكلة او بمعنى آخر هي اجابة عن سؤال، واذا لم يكن ثمة سؤال فلن تكون هناك معرفة – وهذا يفسر لك لم لا يستفيد الطلاب عندنا مما يعرض عليهم من معلومات وثقافة ؟ لأن لديهم بالفعل من الاجوبة اكثر بكثير مما لديهم من الأسئلة ! المعرفة اذن تحتاج الى طرح السؤال وطرح السؤال يحتاج الى شجاعة !

لقد رفع سقراط العظيم شعاره ( ايها الانسان اعرف نفسك ! ) ودار في الاسواق يوقظ الناس لكي يعرفوا، وكان يقول عن نفسه ( انا ذبابة مزعجة، ارسلني الله الى الناس لكي اوقظهم من سباتهم العميق ) أرأيت كيف ان السؤال يتطلب الى (جرأة)

المعرفة التي نتحدث عنها الان والتي تحتاجها مجتمعاتنا العربية لا بد ان ترتكز على الحرية، وليست ممارسة الحرية مسألة هينة، ذلك لان الوجه الثاني من العملة بالنسبة للحرية هو المسؤولية. انت حر فانت اذن مسؤول. مسؤول عن افعالك ومسؤول عن افكارك. والقدرة على تحمل المسؤولية تحتاج الى شجاعة قد لا يقوى عليها الكثيرون ولهذا نجد من الناس من يهرب من ممارسة الحرية، لكي لا يتحمل المسؤولية. فلا عجب ان كل ورقة رسمية في بلادنا تحتاج الى توقيعات لا حصر لها ؟ لان كل موظف لا يريد هو نفسه ان ( يتحمل المسؤولية ) يعني لا يريد ان يكون حرا : انه يهرب من ممارستها. فيضطر الى القاء المسؤولية على غيره. وهكذا نستطيع ان نحكم بان ( البيروقراطية ) تعني (العبودية )

ويفوتنا كما يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاستون بشلارك ( ان الجهل انما هو نسيج من الاخطاء الموضوعية المتماسكة ولهذا لا يخطر ببالنا ان الظلمات الروحية لها بنية، وان كل معرفة موضوعية يجب ان تكون تصحيحا لخطأ ذاتي )

فالانسان الجاهل ليس جاهلا لان عقله يخلو من معرفة طبقا لقول الشاعر العربي القديم

في الجهل قبل الموت، موت لاهله * * فأجسادهم قبل القبور، قبور

وانما هو كذلك لان لديه معرف خاطئة والمجتمع المتخلف ليس متخلفا لانه عاجز عن تفسير ظواهر الطبيعة وانما هو متخلف لان لديه تفسيرات كلها خاطئة.

علينا ان نسهر الليالي لنقرأ ونتعلم لا ان نسهر لنتسامر مع الاصدقاء، علينا ان نفضل الكتب التي تنور العقل على الوجبات الدسمة. فالثقافة غذاء الفكر اهم من غذاء الجسم لان الانسان انما يكون انسانا لانه يفكر ويعرف ويعقل وليس لانه ياكل ويشرب وينجب.

نعم المعرفة تحتاج الى ارادة الشجاعة تنقل الفرد من حظيرة الحيوان الى مرتبة الانسان ومن ثم فان الشعار الذي يقول لك ( تشجّع واعرف ) يقول لك في الوقت نفسه ( تشجع واستخدم عقلك ( وبأختصار ( تشجّع .. وكن انسانا )

* مقتبس من كتاب افكار ومواقف لمؤلفه د. امام عبد الفتاح امام مع اضافة لكاتب المقال

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here