الخليفة الهارون رشيد و البستاني النبيه و الناجي الوحيد

الخليفة الهارون رشيد و البستاني النبيه و الناجي الوحيد * :

بقلم مهدي قاسم

ذات مرة ، صيفا ، انتابت الخليفة الهارون رشيد رغبة مفاجئة في زيارة إحدى بساتينه العامرة ، الزاخرة بشتى أنواع و أصناف فواكه لذيذة وطيبة لامعة بطراوتها المشهية، طبعا ، جاء الخليفة برفقة وزيره الأول جعفر البرمكي الذي كان معه دوما كظله الثابت ..
بينما كان الخليفة سائرا ، متنزها بمزاج رائق ومرح ، بين ممرات أشجار فواكه تفاح و برتقال ورمان وعرموط وتين ، لفتت أنظاره رمانة كبيرة وطازجة ، حتى تكاد أن تتشقق من شدة ما استوت حباتها و نضجت وبدت مثل ياقوت أحمر متلألئ ، ممتلئة بمائها الحامض والعسلي المختلط الطيب، وهي تتدلى من فرع غصن مرتفع و عال بعض الشيء ، بعيدة عن لمسة أو تناول يدِ ، فاشتدت رغبة الخليفة في أن يقطفها و يأكلها فورا ، وإذا به ينحني فجأة طالبا من جعفر البرمكي الصعود على ظهره لقطف الرمانة !.. و إذا بجعفر البرمكي يمتطي ظهر الخليفة بكل طيش ورعونة !..
الأمر الذي أدهش البستاني استغرابا ، هو عدم تردد جعفر البرمكي في صعود على ظهر الخليفة ليقطف الرمان بكل تهور و جرأة و ثقة بالنفس ، كما لو كان يصعد فوق ظهر حمال أبو عتال ، وليس على ظهر أكبر و أخطر خليفة على وجه الأرض ..
بعدما أكل الخليفة الرمانة و غسل يديه من طاسة ماء جلبها له البستاني رغب في أن يكون لطيفا مع البستاني مشيدا بجهده الكبير اعتناء بالبستان الجميل و سأله فيما إذا كان يريد شيئا كمكافأة له فقال البستاني :
ــ نعم !..
سأل الخليفة مبتسما ، مشجعا :
ــ أطلب ما تشاء .. ولكن ما هو ؟..
فبدا البستاني مترددا وهو يرمق الوزير جعفر البرمكي بنظرات وجلة ، وخائفة ،ففهم الخليفة الأمر ، و فاقترب منه آمرا إياه في أن يهمس في أذنه طلبه السري ذاك ..
آنذاك أوصل البستاني طلبه هامسا في أذن الخليفة :
ــ إنني البستاني البرمكي فلان بن الفلان أعلن تبرؤي من آل البرامكة !.. فيا مولاي الخليفة المعظم تذكر طلبي هذا ، رجاء ، رجاء ، إذا آن الأوان ، ذات يوم من أيام تقلبات مباغتة وحدوث محن و شدة ..
في البداية استغرب الخليفة الطلب العجيب ، متوقعا أن البستاني سيطلب منه مالا أو ذهبا أو وظيفة أعلى ، ولكنه عاد ضاحكا ، كأنما وجد الفكرة مسلية وطريفة ، وهو يهمس في أذن البستاني وفي نفس الوقت يربت بلطف وود على كتفه ليعمّق شعوره بالأمان ، لأن مزاجه كان لا زال رائقا ومرحا ، بسبب مذاق الرمانة الطيب و جمال البستان المبهر :
ــ طيب.. اطمئن !.. لن أنسى تبرؤك هذا من آل البرامكة أبدا !..
في أثناء ذلك مرت شهور ، بل و سنوات طويلة على ذلك ، و إذا بالبستاني تفاجئ ذات يوم بجند الخليفة يقتحمون البستان عليه ويشدون وثقافة شاهرين سيوفهم نحوه بنية قتله ، وهم يرددون بغيض و غضب :
ـــ ويحك أيها البرمكي الخبيث و المتآمر اللعين !..
فرد عليهم وهو يهز رأسه بنفي كامل و مطلق :
ــ أنا لم أعد برمكيا منذ وقت طويل !.. وقد تبرأتُ منهم أمام مولاي الخليفة وهنا في هذا البستان بالذات .. وهو شاهد على ذلك ..وإذا لا تصدقوني فخذوني إليه لتتأكدوا من صحة كلامي ،لأنه وعدني بأنه سوف لن ينسى أبدا ، من كوني قد تبرأت أمامه من آل البرامكة هنا ، بعدما أكل رمانا طيبا و لذيذا ..
بين شك ويقين و تردد أخذوه إلى حضرة الهارون رشيد الذي استمع إلى قصته ، بعد لحظات من تأمل و تفكير ، تذكر حادثة البستان ، و تاليا ،ابتسم مؤيدا صحة القصة ، لكن الفضول و حب الاستطلاع قد دفعاه إلى أن يسأل البستاني عن الأسباب التي دفعته حينذاك إلى اتخاذ قرار التبرئة من آل البرامكة ، فأجاب :
ـ التهور و المغالاة الشديدة جدا في استغلال الظروف والموقع والنفوذ والسلطة وقوة التفوق الآنية والمرحلية ، بحيث أن كل هذا قد جعل الوزير الأول جعفر البرمكي ، أن يصعد على ظهر الخليفة بدون أي تردد أو خشية ورهبة ، و بما أنا صاحب خبرة و تجارب طويلة وشاهد عيان على تقلبات ظروف وأحوال و انهيار إمبراطوريات و زوال سلاطين وعروش ملوك ، ولكون دواليب الدنيا دوارة و متغيرة حتما ، فلابد أن يأتي وقت لهؤلاء المُغالين والواثقين عن سذاجة ببقاء الحال والقوة والسلطة والمال إلى الأبد ،لذا فأدركتُ أنه سيأتي يوم حتما و يتعرض آل البرامكة لنقمة مولانا الخليفة بسبب استغلالهم للسلطة بحكم ثقتهم المطلقة والعمياء بأنفسهم و موقعهم و قوتهم المتفوقة مرحليا فحسب ،وهو الأمر الذي حدا بيّ و جعلني أن أتبرأ منهم لأفلت بجلدي عندما يتعرضون لمذبحة مترقبة أو مفترضة ..
********
* هذه القصة أو الحكاية هي من نسيج خيالي أنا كتبتُها كإشارة ، والنبيه تكفيه الإشارة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here