ضميرنا !

ضميرنا ! * د. رضا العطار

يجب ان نميز بين الضمير والوجدان، لان بعض الكتاب اوجدوا تميعا سيئا بين الكلمتين. فالوجدان هو ان اجد نفسي افكر واحس اني افكر، لا كأنسان نائم او الذاهل في عاطفة غالبة، فتفكير الحيوان هو تفكير العاطفة التي تسوقه حتى لا يدري ما يفعل. كالكلب يضع انفه الى الارض ويطلب الطعام كأنه نائم او حالم او كالذكر من الحيوان يطلب الانثى فيجري خلفها كالمجنون لا يبالي اية عقبة.

فهنا نجد عاطفة تحرك الحيوان ولا تترك له مجالا للوجدان، اي انه لا يدري ما يفعل. ونحن احيانا نسلك هذا السلوك حين يطرأ علينا ما يغضبنا فننفجر ونثور. فاذا هدأنا وشرع احد الحاضرين يلومنا على ما فعلنا، اجبنا : – كنت متهيجا لم ادر ما فعلت –

وهذا السلوك العاطفي نراه كثيرا في الأم عند وفاة ابنها فانها تهذي وكأنها في غياب من الوعي. ففي كل هذه الحالات واشباهها نسلك سلوكا ذاتيا اعمى كالحيوان بلا عقل،

اي لا ندري ما نفعل ولا نفكر التفكير المنطقي السليم الذي هو ميزة الانسان الكبرى وان تكن هذه الميزة مقصورة على اوقات قليلة من حياتنا الفكرية. ومن البديهي ان العقل يؤدي اما الى التفكير السليم القائم على اعتبارات موضوعية منطقية. وامّا الى الضمير، اي اننا نحس المسؤولية الاجتماعية ونتقيد باعتباراتها التي تقودنا الى المنطق.

والمنطق تفكير محض قد لا يداخله اي اعتبار اخلاقي. ولكن الضمير تفكير اجتماعي تداخله الاعتبارات الاخلاقية.

ونحن نعيش في مجتمع ننتهي الى الاخذ بمقاييسه ومثالياته بأيحاء القدوة وباللغة التي يتكلم بها افراده. اذ تتعين لنا القيم بكلمات هذه اللغة. ولهذا السبب لا يزيد الضمير على مستوى المجتمع الذي نعيش فيه، الاّ اذا كان الشخص فذا يستقل في تفكيره ويرى رؤيا لا يراها الافراد العاديون كما هي الحال في الثائرين والمصلحين والانبياء والقديسين. فان ضميرهم يسمو على المجتمع، لأنهم يهدفون الى مجتمع اعلى وارقى.

والضمير هو في جميع الحالات صراع يضعف او يقوى بين عاطفتين او اكثر فهو صراع بين الانانية والغيرة اي هل نؤثر مصلحتنا الذاتية وان كان في ذلك ضرر لغيرنا،

او نؤثر مصلحة هذا الغير ايضا فنسلك السلوك السوي بين المصلحتين ؟ اي ان الضمير صراع بين الانانية الذاتية وبين واجبات المجتمع. ومن البديهي ان رجلا يعيش وحده بعيدا عن الناس لا يمكن ان يكون له ضمير. لاننا بالضمير نطالبه بان يكون صادقا نبيلا كريما مغيثا للمنكوب، شهما يتسم بالمروءة ويتجنب الغش والخداع والكذب. ولكن ما دام يعيش وحده كيف يمكنه ان يمارس ما نطالبه به ولمصلحة من يفعل هذا ؟ .

فالضمير اجتماعي اي انه الصورة التي يقدمها المجتمع لنا كي نعيش ونسلك على رسمها. ولذلك يختلف الضمير من امّة لأخرى. فضمير المرأة في جزيرة سيريلنكا او تبت لا يوبخها عندما تتزوج جملة رجال في وقت واحد. في حين نحن نشمئز من هذا السلوك. بل ان الضمير يتغير عندما تتغير الظروف.

فاننا نستنكر قتل الابرياء في المدينة زمن السلم، لكننا نجيز للجندي قتلهم في زمن الحرب عن طريق قذف الصواريخ عليهم من الجو.

ومع ان المجتمع الذي نعيش فيه يعمم بيننا قيما اجتماعية واخلاقية، لكننا ننقسم الى طبقات وطوائف دينية وثقافية، ولذلك تختلف ضمائرنا. فالفلاح الاجير لا يدرك من معنى الحرية ما يدركه موظف حكومي، ورجل الريف العربي يعتبر الثأر والانتقام فضيلة، ويحس وخزا في ضميره عندما يهمل عادة الثأر والانتقام، انه ينشدهما مفاخرا.

وحين نقول: (المرء ليس له ضمير) انما نهني بهذا القول ان غرائزه الانفرادية قد تغلبت على غرائزه الاجتماعية. وكثير من المجرمين يعودون الى هذا الاتجاه. والغرائز الانفرادية اي تلك التي تبعثنا على ان ننشد مصالحنا الخاصة دون مراعاة لمصالح المجتمع، هي اقدم غرائزنا واثبتها في كياننا النفسي. اي ان الحيوان لا يزال حيا فينا. وهي فطرية لا تحتاج الى تعليم وتربية. اما الغرائز الاجتماعية فجديدة، ولذلك نتعلمها من المجتمع بالقدوة والدين والعادات واللغة والكتاب والمدرسة.

نحن والكلاب، تجمعنا بذرة ااضمير

عندما نقول : ( الرجل الذي ليس له ضمير ) انما نعني بهذا القول ان غرائزه الانفرادية قد تغلبت على غرائزه الاجتماعية. فسبب الكثير من الاجرام يعود الى هذا الاتجاه.

فالغرائز الفردية هي تلك التي تبعثنا على ان ننشد مصالحنا الخاصة دون مراعاة مصالح المجتمع. اي انها الحيوان الذي لا يزال حيا فينا وهي فطرية لا تحتاج الى تعليم وتربية.

اما الغرائز الاجتماعية فجديدة ولذلك نتعلمها من المجتمع بالقدوة والدين والعادات واللغة والكتاب والمدرسة. ولهذا السبب نجد ان الانسان البدائي يمتاز بضمير ما، لان نزعة الاجتماع ببني جنسه تحدث له وعيا هو بالطبع دون وعينا بكثير، لكن هذا الوعي يحمله على ان يقدر مسؤوليته امام المجتمع كي يقدر مصلحته الذاتية.

انظر الى الكلب وانت تأكل، فإنه يشره الى الطعام ولكنه يحجم عن الخطف، لانه يخاف. وهو في هذا التردد بين الشره والخوف يحدث له وعيا يحرك ذكاءه ويجعله يحس بالمسؤولية.

والكلب حيوان اجتماعي يعيش معنا ويصادقنا. ونحن في منطق الكلب، كلاب مثله. ولكن انظر الى القط الذي لا يتأخر عن خطف ما في الطبق اذا جاع. والقط بالطبع حيوان انفرادي. يعيش في بيوتنا ولكنه لا يشترك معنا في عواطفنا. فاذا خرجنا لم يتبعنا. واذا دخل علينا غريب لم يهاجمه كما يفعل الكلب. ولذلك نحن نعجز عن تعليم القط السلوك الاجتماعي الذي يوافقنا ولكننا ننجح مع الكلب في هذا التعليم.

نحن والكلب من الحيوانات الاجتماعية التي نجد فيها بذرة الضمير. ولكن يجب الا نفهم من هذا ان الضمير يتكون بالفطرة. فان نظرة عاجلة في الانحاء تدل على انه ليس كذلك، وانه يكسب بالتعليم. وان ما نعده رذيلة في امّة قد يكون فضيلة في أمة اخرى. كظاهرة الضمد (زواج المرأة جملة رجال) والتي كانت تمارس عند العرب قبل ظهور الاسلام.

والضمير مؤلف من ثلاث ذوات:

1 – الذات البيولوجية، اي ما ورثناه من الحيوانات في الملايين من السنين الماضية. وهي احط ذواتنا التي نؤدي بها حاجاتنا البدائية. كالطعام والأنثى وغريزة الخطف و السيطرة. ولكنها مع انحطاطها فهي اقوى الدوافع عندنا، لأنها غرائز وشهوات في الاكثر، ذهنية في الأقل.

2 – الذات الاجتماعية، وهي مؤلفة من التقاليد والعادات والافكار الاجتماعية التي نستخدمها لمصلحة الذات البيولوجية السابقة دون مخالفة للمجتمع الذي نعيش فيه. وهي ذهنية في الاكثر، غريزية في الأقل.

3 – الذات العليا، التي تتألف من الدين والاخلاق والمثليات التي تحملنا على ان ننكر على انفسنا بعض المباهج، ونحن نكسبها في الطفولة من الابوبن ولكننا ننقحها بعد ذلك.

وضميرنا مؤلف من هذه الذوات الثلاث. ولكن الذات الاولى تتغلب في المجرم وتجعله انانيا لا يبالي بالمجتمع. في حين ان الذات الثانية تتغلب في الانسان العادي الذي لا ينحط ولا يرتفع. اما الذات الثالثة فتمتاز بها الصفوة في الامة. ووخز الضمير هو في النهاية الالم الذي نحسه للصراع القائم بين هذه الذوات الثلاثة في انفسنا. والضمير السليم هو الذي تتغلب فيه الذات الثالثة على الذاتين الاوليتين، او على الاقل تتغلب فيه الذات الثانية على الاولى.

ونستطيع ان نقول بعبارة اخرى: ان ضمير المجرم في الاغلب مؤلف من الذات الانانية العاطفية التي يجري نشاطها الاكبر في العقل الباطن.

وضمير الرجل العادي في الاغلب مؤلف من الذات الاجتماعية العاطفية او الذهنية.

وضمير الرجل السامي مؤلف من الذات الواعية المثقفة وان كانت جذورهذه الذات ترجع الى الاعجاب بالاب ايام الطفولة واتخاذ اسلوبه باعتباره البطل الذي نحب ان نقتدي به. تتداخل وتندغم في نفس الانسان هذه الذوات وتكون له ضميرا.

وهنا يجب ان نعرف كلمة (التسويل). فان النفس تسول احيانا نوعا من السلوك المنكر بتعليلات وتدليلات ذهنية حتى نقول ان الغاية تتبرر الوسيلة. فنعذب الحيوانات كي نصل الى استنتاج علمي، او حين يلقي الطيار بقنابله على شعب بحجة ان الوطنية تقتضي ذلك او ان نضرب الاطفال بغية تعليمهم.

وهناك الضمير الحسي والضمير العقلي، فالاول عام يشمل جميع الناس، بينما الثاني قليل جدا. فان اي واحد منا لو طلب اليه ان يقتل انسانا لرفض، ولكننا لا نبالي عندما نقرأ في الصحف اليومية خبر قتل الملايين من البشر في الحرب، ففي الحالة الاولى يقوم الضمير على التصور بالعقل، بينما في الحالة الثانية على الحس فقط.

ولذلك يمكن ان نقول ان هناك الضمير الذكي الذي يتأثر ويتفزز للحوادث البعيدة الغائبة عن الحس كما ان هناك الضمير البليد الذي لا يتحرك الا عندما تتحرك الحواس.

* مقتبس من كتاب عقلي وعقلك للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here