فرات المحسن
لست مستعداً للحديث بالتفصيل عمّا دار أو حدث لي في الأسر. الحديث عن كوابيس تلك الأيام يجعلني أعيشها مرة أخرى بكل تفاصيل الأوجاع التي حوتها. لهذا السبب تراني أحاول دائماً انتزاعها من ذهني. أحاول وأكرر المحاولة، أحاول ولكن هل ذلك ممكن، أشك في الأمر مثلما أشك بقدرتي على انتزاعها ورميها بعيداً. لا يقين عندي. فروحي من الهشاشة أجدها بعيدة ً عن التماسك، وواهنة القدرة على استحضار وتركيب الأحداث. أحداث تلتصق في تلافيف عقلي وتنتشر مثل شبكة ثخينة من حبال مفتولة. تنفلت ولكنها تلتفّ في التجاويف، وتثب أمامي كوحوش بمخالب مدببة، تنهش روحي ماسكة بتلابيب ذاكرتي. ورغم الألم المضني الذي ينخر روحي، فإني أظن أن التفكير، وفي آن واحد بكومة من الفواجع والمواجع، يربكني ويضعني في لجة من متاهات لا نهاية لها. ولو فكرت الآن بالأمر ملياً لوجدتني أدرك جيداً أن الإحساس بالألم جراء القسوة المفرطة التي وجهت لجسدي وقبله لروحي، يجعلني أكثر قدرة على الاختيار بين الفصل أو الجمع بين الأحداث. سردها حسب الرغبة أو الظرف، لن يكون عملاً سهلاً. فألم التذكـّر له خصوصية غريبة، يكون العقل فيه، إمّا منفلت مشوّش أو يمتلك ما يمكنه من ضبط إيقاع جميع المشاهد وجعلها طوع الحديث.
الأسر، حاولت دائما أن أجد له تعريفاً دقيقاً، ولكن في كل مرة أجدني عاجزاً عن ذلك. من وقع في الأسر يستطيع أن يفرج عما خبأته ذاكرته لوقائع من فظائع وآلام واجهها هناك. ومع ما يملكه من إدراك أو إحساس بفرط القسوة التي وجّهت له، يبقى المرء غير قادر على أن يعطي وصفاً دقيقاً ومتكاملاً لوضعه النفسي، أو بناء صورة حقيقية لعالم عاش فيه، اسمه الأسر. فهو عالم متشابك ومبطن ومفزع. ولذا فأنا أعترف بعجزي التام عن توصيفه بدقة. عجزي هذا يدفعني أن أعافه. فإن أردت استحضار عذاباته وجدتني في الأخير أتسربل بالذل، وأحس بمقدار الخذلان والدونية التي واجهتها. نعم دونية تصل حدّ الاعتقاد بأني كنت مثل كلب أجرب، احتشدت جوقة من رجال يمتلكون قدرات فائقةً من السادية، التفوا حوله، وبجهود منفلتة كانوا يحاولون إرساله إلى حتفه اختصاراً للزمن. ولكنه وبمرور الوقت، وفي كل مرة، بين طواعية واستسلام وتخاذل ودونية، يجد نفسه قد توطن بالكامل مع رغباتهم ولذا بقي يقاوم من خلال ذلـّه وخوفه. ولكن كل شيء أرادوه نفذته طواعية.
لا أريد أن أسرد كل ما واجهته في الأسر. ولكني أتذكر الآن وهو ما يعتصر ذهني وقلبي حدّ الوجع. أتذكر بإفراط، الأشياء المحيطة بذلك المعسكر، وأيضا الوجوه التي جاورتني أو رُصت معي في المحاجر، وحتى من ذهب منها دون عودة، بقيت صورته ملتصقة تتأرجح في بالي. ولكن لأبعد اليوم الحديث عن كل تلك الوقائع وتفاصيل الحوادث بالرغم من أنها كانت شبيهة ً بالزلازل. نعم زلازل تهز الكيان، ربما حدوثها بالنسبة لي يفوق بقوته ، أكثر مما يحتمله مقياس رختر ذو الرقم المتيبس عند النقاط العشر.
الأسر هو الأسر، أي سجن دون يقين أو نهايات، وهو اقتلاع حتمي من الحياة الطبيعية السوية. ومنذ البداية يوم ابتلع المرء طعم الذهاب إلى الحرب عنوة أو بخياره، يجد نفسه تحت وطأة التفكير بحلول قاصرة تدور في دائرة مغلقة، تتمحور حول موضوعات الموت أو الأسر أو العوق أو العودة مع ذاكرة مريضة ملتبسة.
في الأسر لا يعدم هناك من يحذر الآخرين وينصحهم بعدم الإفراط بالحديث عن أموره الشخصية، كي لا تكون دليلاً يستغل ضده. ولكني ومنذ البداية بحت بكل ما جادت به قريحتي حين سألوني عن الذي حدث، وسبب قدومي إلى حدود دولتهم طالبا اللجوء.
لم أقبل نصيحة رحيم حميد رجب العافي، وهو من شاركني في قفص الأسر الأول.حين نبهني أن تكون إجاباتي دائماً مختصرة ً ودقيقة ً وعلى قدر السؤال، ولكني تجاوزت نصائحه، ورحت أثرثر لهم عن أماكن وأحداث كنت أعرف جيداً أنها ستزيد من قساوتهم في تعذيبي. كنت أظن أن ذلك ربما ينهي معاناتي بشكل أو آخر، ولكنهم لم يعطوني مثل هذه الفرصة. كانت حساباتهم بعيدة ً جداً عن حساباتي.
لا أبالغ لو قلت إن الوئام كان مستحيلاً مع نفسي، وهو كذلك مع من شاركتهم أقفاص الأسر العديدة التي تنقلت بينها بتوصيات وسجل آثام يلاحقني مثل الظل، دونتْ فيه الكثير من المساوئ والتهم البشعة الملفقة. لم أتوطن مع الجميع مثلما مع الأماكن. هكذا كانت فترة أسري. كان من المستحيل عليَّ مقاربة جميع الأشياء حتى الأسرى الذين يشبهوني في عذابي.
في الأسر، وفي البداية أوجزت لهم وضعي لمرة واحدة، وبعدها أفضت حوله عشرات المرات. ولكن الثرثرة أو حتى الإجبار على ممارستها، لم يكن لينفع بشيء مع النوايا السيئة التي واجهتها. فقد استغل أسمي وهويتي ليكونا سيف ديموقليس الذي أتلمس شفرته الحادة وهي تقترب من عنقي كل ساعة. في اليوم الواحد رددت أسمي عشرات المرات. وحين أتلعثم وأنا أعلس الطين مخلوطًا بالأحرف بالدم، كانوا يطلقون ضحكاتهم المجنونة فأصاب بالعته، وأروح أتلوى ليرفع ذلك عقائرهم بالصراخ والشتائم ويندفعون في دحرجتي وركلي وتمريغ وجهي بالماء الآسن. كانوا يعفرون وجهي بتراب الأرض وطينها، وكان الدم يتدفق من جسدي كما ينساب ماء العيون. أمدّ جسدي فوق الأرض ليسحقوا ما يشاؤون سحقه. فما عاد لي رغبة بوجوده. هكذا، لم يكن قد تبقى لي ما أحافظ عليه.
حطـّموا أسناني، فأصبحت ألثغ حين يطالبونني بإعادة تكرار أسمي وقصة اختلاف هويتي وهروبي من الحرب. روضوني مثل بهيمة، فكنت أطيع إشاراتهم بحرفة العارف بالرموز والإشارات. أصبحت أعرف ما يطلبونه مني عبر إشاراتهم وليس كلامهم. أسبقهم في معرفة ما تعنيه إشارة الإصبع أو الكفّ وحتى الحذاء. ما عادوا يحتاجون غير التلويح لي بالحركة، فتجدني أقعي على ركبتي ثم أضع خدي فوق التراب أو الطين ليدوس أحدهم بحذائه الصلد المتيبس فوق رأسي. يضغط ثم يضغط حتى تكتم أنفاسي، وحين انتفض قافزاً خوفاً من الاختناق والموت، تبدأ حفلة الركل والضرب والشتائم.
حين عدت من الأسر كان كل ما أملكه جسداً ذابلاً منهكاً وروحاً متهاوية متصدعة. كان يقيني يعرض أمامي أشباحاً توقظ أسئلة حيرى.
النتيجة كانت هي الأسر ؟؟.. لا حتما.. التعذيب هو النتيجة ؟؟.. كلا الأسر هو السبب، أم يا ترى الحرب هي النتيجة والسبب ؟.. بلا شك لو كنت أعرف، لو أني تيقنت ووجدت ما يقنعني بما حدث، لثبت إلى رشدي دون عناء واستعدت قواي الجسدية والعقلية، وامتلكت القدرة على الفتك بكومة الخواطر التي تراودني وتقض مضجعي. نعم أنا من اختار الأسر.
في ليلة ظلماء ممطرة كان الربُّ فيها غاضباً على من بنى أجسادهم من طين، وبثّ فيهم من روحه، ففلتت تلك الأرواح من بين أصابعه، لتصنع لها قدراً دون معرفة كنهه أو لأي مصير سيقودهم هذا القدر. اخترت أسري طواعية. لحد هذا الوقت أتساءل مع نفسي، ما الفرق بين الأسر والموت في الحرب؟ هل هناك تفاضل بينهما؟ من المستحيل أن يكون هناك جوابٌ مقنعا يكسر حدة هذه المعادلة البشعة واللئيمة. ما نوع النتائج في كليهما ؟ هاأنذا لا أملك غير أقل من دزينة أسنان، وبعد وقت قصير سوف يقل هذا العدد. الركلات واللكمات اقتلعت الثلث منها، والباقي نخره السوس والسجائر. أما عاهتي الأخرى فهي اليوم تسكنني ليس كوجع، بقدر ما تعني قربي من العمى الكلي. فالالتهاب أخذ يسري نحو عيني الأخرى وشح الضوء فيها، وأخذت الصور أمامي تفقد تفاصيلها ووضوحها.
لا يغادر المشهد ذاكرتي على الإطلاق. ألوكه بمرارة تمني الموت. أبداً أستحضر تلك اللحظة حين دفع رأسي بحذائه الثقيل، وبكل ما يمتلك من قدرة. غرز رأسي في حفرة من طين لزج. لم يأت لإضاعة وقته في الحديث معي. أشار لي فوضعت وجهي في الطين. شممت رائحة نتانة الطين. دفع براسي فغاص وجهي. شعرت بلسعة حادة تخترق جفن عيني المغمضة. حرقة كأنها لفحة نار كاوية. لا أدري ما الذي حدث بالضبط، ولكني رفعت جسدي بكل ما أوتيت من قدرة وصرخت. كان الدم يختلط بالطين. شعرت بتلك القطعة الخشبية الحادة، وقد اخترقت عيني وغارت داخلها. لم أعد أرى شيئاً وتلقيت بعدها ركلات عديدة مرغت جسدي في الحفرة.
كل شيء اكتمل في الأسر وعدت شبه أدرد، أعور و كليل العين الأخرى بعد أن التهب الجرح وتورم وجهي دون أن ألقي عناية خاصة.
من كان السبب في كل ما حدث ؟ أنا أم هي الحرب أو الأسر الذي جازفت ودفعت نفسي لخياره، أكنت مخيراً بين الموت و النجاة. الحديث عن الأسر موجع ومفزع، وأنا الآن لا أملك القدرة للبوح بكل تفاصيل ما وقع لي فيه. لأدع ذلك ليوم آخر أو لحساب آخر. لا أستطيع احتمال استحضار كل هذا أو حتى الحديث عنه، رغم أن الثرثرة حول العناء والآلام تجلب بعض الراحة مثلما يقال.
أن تختار الأسر يعني أن تختار موتاً دون حدود أو مواقيت. وحكايتي فيه، تصلح فقط للمجانين. فالمجانين وحدهم من يدرك معنى خزين العذاب الذي تعتمر به الروح. ولذا أفكر، أي سبب أو نتيجة أختار.ولذا أحجم عن سرد تفاصيل قصة الأسر، وأبدأ من لحظة خياري له. نعم أعتقد ذلك. وليس صدفة أن أبتر من حديثي مشاهد معسكرات الأسر التي تنقلت فيها. فرغبتي اليوم أن أختلي بالسبب والنتيجة سوية. أن أشبكهما تحت أضلعي، ثم أفرغهما أمامي. وقبل أن أسرد حكايتي التي لا أعرف إن كانت تستحق التدوين أم لا. فإنني أشعر بالارتباك وعسر في المحاولة. وإن كانت سنواتي المنصرمة قد ذهبت هباءً، فالمهم الآن محاولتي تدوين تلك الخديعة من الرذيلة والقسوة التي وقعت فيهما جراء خيار، حتماً لم يكن أنا من ذهب إليه طواعية، وإنما هناك من دفع بي نحوه.
لا لست صادقاً ولا حتى كاذباً ولست أنا من يروي هذه الهلوسات، ولكن عليَّ أن أدونها قبل أن أجن، فقد كنت شاهداً ومشاركاً فيها،.وأجد من المهم وبعد أن أرويها، علي أن اقطع الشك باليقين وأمسحها من ذاكرتي نهائيا، ولن يكون ذلك حلا دون أن أختفي معها وإلى الأبد.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط