العراق.. التطبيع مع الفوضى

إياد العنبر
25 سبتمبر 2022
“لم تعد الحكومة وحدة تعبر عن تراكمات الفوضى السياسية في العراق”.

يبدو أن أغلب ملامح الدولة ومؤسساتها تصدأ وتتلاشى في العراق، حيث لدينا برلمان لكنه معطل تماما منذ أكثر من خمسة أشهر. ومدعي عام لا يحرك ساكنا أمام تسريبات صوتية لسياسيين تهدد أمن الدولة والمجتمع ولا يتخذ موقفا في مواجهة فضائح الفساد! ولدينا حكومة، لكنها بالإضافة إلى صلاحياتها المحددة بتصريف الأعمال اليومية، فإنها حكومة غير مكتملة، وحتى قبل أن تبدأ تفقد صلاحياتها الكاملة، فهي حكومة بدون وزراء يديرون أهم الوزارات التي يكون عملها على تماس مباشر بتفاصيل حياة المواطن اليومية، مثل المالية والكهرباء والصحة!

ملامح الفوضى تلك، هي ليست نتاج الصراعات السياسية المحتدمة على تشكيل الحكومة القادمة، وإنما هي تتكرر مع كل دورة برلمانية حتى لم نعد نستغرب منها، وهي تفسر لنا طبيعة تشكيل الحكومات التي لا يجمعها برنامج سياسي مشترك، ولا تتشارك شخصياتها في الرؤية والمشروع السياسي. لذلك هي لا تتأثر بغياب وزراء أو حتى رئيس الوزراء نفسه، كما فعل ذلك عادل عبد المهدي الذي ابتدع لنا (الغياب الطوعي) عن ممارسة مهامه كرئيس حكومة تصريف أعمال، بعد استقالة حكومته وتأخر تشكيل حكومة جديدة.

لم تعد الحكومة وحدها تعبر عن تراكمات الفوضى السياسية في العراق، بل تجدها في كل مفاصل الدولة ومواقف القوى السياسية الماسكة لزمام السلطة. من أخطر مظاهرها، تصريحات السياسيين وزعمائهم عندما تكون عبر منصات التواصل الاجتماعي في تغريدات على تويتر أو منشورات فيسبوك أو تصريحات تلفزيونية، ويتم تجاهل المؤسسات السياسية في المحاسبة والمراقبة، ولا تترجم تلك الخطابات إلى مواقف، فهي لا تتعدى مستوى الاستعراضات السياسية.

من يحكمنا ويتحكم بمصير البلد وثرواته، قوى موازية للدولة! وقد تتعدد تسمياتها وأوصافها، فتارة نسميها “مليشيات”، وتارة أخرى “مافيات سياسية واقتصادية”، تستمد شرعيتها من سطوة السلاح، وتتراكم ثرواتها من صفقات الفساد. وبالنتيجة أصبح لدينا طبقة طفيلية تتحكم بالقرار السياسي، رغم أنها خارج العملية السياسية! ولا يوجد تصنيف لهذه الفئات في قاموس السياسة ولا الاقتصاد، ولا حتى في علم الاجتماع السياسي! فهي تتغول على الدولة وتصادر وظائفها، وتمارس عملها بمنطق العصابات والمافيات، وتفرض هيمنتها على الدولة ومؤسساتها بقوة السلاح، وسطوتها على شخصيات القرار السياسي.

في دولة الزومبي، كما وصفها وزير المالية علي عبد الأمير علاوي في استقالته، نعيش فوضى ما قبل الدولة، ولكننا نعيش في كيان اسمه “دولة”! هذا الكيان تحول إلى جسد بلا روح الدولة، ولا يرتبط بأي علاقة تفاعلية مع المجتمع، تعتاش فيه الطبقة الحاكمة على الفوضى والخلافات، وتعتقد أن بقاءها بالحكم مرهونٌ ببقاء الفوضى، فهي السبيل الوحيد لضمان عدم محاسبتها ومساءلتها.

كل الحكومات تتحدث وتعترف بوجود السلام المنفلت، لكنها تعلن ذلك وتعقد صفقات في الغرف المظلمة مع القوى التي تملك هذا السلاح، وتتراجع عن وظيفتها في محاربة تلك القوى أو منع تغولها، حتى وصل بها الأمر إلى الانسحاب من ميدان عملها الأمني وفسح المجال أمام قوى السلاح المنفلت في ممارستها هوايتها بالتمرد على الدولة ومؤسساتها وعناوينها.

رغبات الحكومات في البقاء بالسلطة، هي أساس الفوضى والسبب الرئيس في ديمومتها، إذ يصبح التمرد على الدولة وتمرير صفقات الفساد مباحا، ما دامت الغاية هي البقاء في السلطة. والتي تحتاج أيضا، تقديم الولاء والطاعة للزعامات السياسية وحاشيتها، ولكل من له قوة ونفوذ في مراكز القرار.

ما تقدمه الحكومة الحالية والحكومات السابقة من تراكمات للفوضى هي أخطر من الفوضى بحد ذاتها. فنحن الآن لا يمكننا الحديث عن ضرورة تحديد شكل العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية وفقا لمبادئ الدستور، ذلك أن هذا الموضوع يثير السخرية والاستهزاء أكثر مما يعبر عن حل للأزمة. فالفيصل في هذه العلاقة المشوهة على مستوى إدارة الموارد هو الصفقات السياسية التي تعمل على وفق مبدأ المكاسب السياسية قصيرة الأجل، واستراتيجيات الإرضاء التي تعتمدها الحكومات والفرقاء السياسيون عندما يجلسون على طاولة تشكيل الحكومات.

تهدر الحكومات ملايين الدولارات على المؤسسات الأمنية، ورغم ذلك تتخاذل هذه المؤسسات عن مواجهة قوى السلاح المنفلت، وبات يستهويها دور المتفرج على استعراضات وفعاليات تلك القوى التي تمارسها بين فترة وأخرى، لأن الحكومات تدين بالولاء لزعامات تلك القوى، ولا تريد أن تدخل في مواجهة معها، ولأن مشروع حكوماتنا بالأساس ليس مشروع إعادة الاعتبار للدولة، وإنما لديها وظيفة محددة تقوم على مبدأ إرضاء زعامات القوى السلطوية وضمان مصالحها، وما عدا ذلك، فهي شعارات للتسويق الإعلامي.

المأساة الحقيقية عندما أصبحنا نتعايش مع الخراب باعتباره مسألة طبيعية وليست شاذة في جمهورية الفوضى، فالتعيينات في المناصب الحكومية العليا بالوكالة بات أمرا طبيعيا لا يثير الاستغراب ولا حتى الاعتراض، مادام يحظى برضا وقبول زعامات قوى السلطة ويضمن مكانا للنفوذ على داخل مؤسسات الدولة. حتى أمسينا نتعامل مع مافيات الفساد كمظهر طبيعي من مظاهر الحياة السياسية في العراق.

ختاما، ستبقى دولتنا فاشلة، ما دامت قوى السلطة والنفوذ والحكومات تؤمن بأن المكاسب التي تحصل عليها في ظل الفوضى تحتاج إلى استراتيجيات تضمن إدامة الفوضى! وما دمنا بعيدين عن حكم دولة المؤسسات فإن الفوضى باقية وتتمدد، وبنحو يدفع بالبلد إلى التطبيع مع هذه الفوضى!

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here