فرات المحسن
أخذت السماء تمطر مطراً مدرارا ، أرعدت، وشطر البرق بسطوعه حافة الجبل اليمنى. كنت أطالع المنظر من خلال شقوق الباب الخشبي المتهالك، فتلتقط عيني صورة الظلام الذي راحت قطرات المطر الكثيفة المتسارعة، تكسر حدته بالتماعات براقة مرتعشة إثر انعكاس ضوء الفانوس عليها. كنت مستغرقاً في النوم ولكن الرعود وصوت المطر المتساقط فوق الصفيح أيقظني، وجعلني أثب من الفراش. اعتقدت أن هذا المطر الغزير الهادر، يمكنه أن يجعل سقف الغرفة يهوي فوق رأسي. أنتظر الفجر حيث أتسلّم ورقة الأجازة الدورية والعودة إلى مدينتي القريبة من بغداد. ولكن بمثل غزارة هذا المطر، من الممكن أن يُقطع الطريق الترابي المؤدي إلى الشارع الإسفلتي، الذي بدوره ينقلنا إلى مدينة خانقين. كان هذا ما يحدث عادة أثناء مواسم الأمطار. حينها تحفر السيول أخاديد عميقة تخترق السهل، فتبدو وكأنها وديان شقـّها الرب منذ غابر الأزمنة. في هذه الأرض لاشيء يبعث على الاطمئنان بل يبدو المكان، وقد أنبتت فيه حقول أسى وفزع وخذلان. وأنا اليوم ما عليَّ غير انتظار يوم آخر سوف يكون بطول دهر، كي أتسلمّ أجازتي الدورية.
بيت الآغا وهو شيخ المنطقة الذي هرب مع سكان القرية بعد احتلال الجيش العراقي للسهل، اتخذناه مقراً لوحدتنا العسكرية، وهو عبارة عن مجموعة غرف تجاور بعضها وتلتف لتحيط ممراً واسعاً وتشكل مستطيلاً يمتد لأكثر من عشرين متراً طولاً وعرضا. تقع غرفة الضيوف أو الإيوان عند طرفه الأيسر، وهي باحّة مفتوحة تشرف مباشرة على الشارع المفضي نحو الجبل أو النازل نحو الحدود العراقية، والطريق يتشعب إلى فرعين ميسميين، أوسعهما يتجه مباشرة إلى مضيق يدعى فتحة سرتنك، تلك الفتحة الفاصلة بين جبلين عاليين. الجبل يمين الفتحة يسمى باغ ويسارها جبل سلمانان. السّهل والفتحة ومرتفعات الجبلين باتت تحت سيطرة الجيش العراقي منذ الأيام الأولى للحرب. لم يخطر في بالي ولو لمرة أن أسأل عن معاني أسمي الجبلين، بالرغم من أني تسلقتهما عشرات المرات، كجندي حماية للمؤن المرسلة إلى مراصد كتيبتنا المنتشرة فوقهما.
المهجع الذي أنام فيه كان في يوم ٍ ما مطبخاً لبيت الشيخ، يوحي بذلك الهباب الأسود الذي يغطي الجدران والسقف، وهناك أيضاً بقايا موقد، وقد اضطرنا هذا الوضع لاستعمال ورق الجرائد لتغطية سخام الجدران. صاحبي الذي يشاطرني السكن في هذه الغرفة الصغيرة الوسخة، ذهب منذ يومين بمأمورية إلى معمل تصليح المعدات في بعقوبة. وهذا ما يبعث القرف والوحشة في نفسي.
تنبهت لجلبة أصوات مكتومة كانت الريح تجلبها. كانت مثل رغاء حيوانات أو عويل يحدث صخباً يخالط صوت المطر، فيبعث بالنفس قشعريرة. لم أكن متيقناً لولا أن الصوت بات يقترب أكثر فأكثر وكأنه يخترق الظلام ويرتطم بجدران البيت وأبوابه. خرجت متحاشياً المطر، واتجهت صوب الحرس الذي وقف متسمراً عند حافة الفناء اليسرى من شرفة الرواق المطل على الشارع. كان يحملق في الفضاء البعيد محاولاً اختراق الظلام بقدر ما يستطيعه نظره. كان وكأنه يترصد عدواً شعر باقترابه. نبهته فنظر بعضنا إلى الآخر وعلامات الاستفهام تملأ وجهينا.
ـ ما الذي يحدث ؟… كأني أسمع حركة في الجوار .. أتسمع مثلي صوت عويل؟
ـ بالضبط .. ولكن الظلمة والمطر يحجبان الرؤية ..
ـ لعلها أصوات صادرة عن مقر مجموعة الجاش* وحيواناتهم.
ـ ولكنها مثل عويل مجموعة بشر.. إذهب وأيقظ ضابط الخفر .. إنها النوبة الليلية لنائب الضابط عبد الرزاق.
ـ ما الفائدة إن لم تتحقق من الأمر جيداً.
ـ لا عليك أيقظه ليكون على اطلاع.
غدت الأصوات أكثر وضوحاً وقرباً. كانت ترتفع عويلاً يضج به الوادي، وعندما عدت بصحبة نائب الضابط عبد الرزاق، التمع البرق بحدة كاشفاً في البعيد عن جمهرة كبيرة تتقدم راجلة ً فوق الطريق. اجتازت الأخدود المجاور للمقبرة جنوب مقـّر وحدتنا، ثم انعطفت متجهة ً صوب الشارع الذي يصل إلينا. مجموعة كبيرة لا يحصى عددها من البعيد، ولا ترى أشكالها غير أجسام تمشي ببطء وتنوخ بأجسادها، وثمة مجموعة من الجاش يمتطون بغالهم ويسيرون أمام وخلف هذا الجمع.
ـ إنهم مهجرون إلى إيران… هكذا أعلمتنا برقية الفرقة عصر اليوم.. راقبوهم جيدا كي لا يتسرب أحد منهم .
هكذا أوجز الموقف نائب الضابط عبد الرزاق، وانسل عائداً نحو غرفته. تسمرت أرقب الحشد القادم من بعيد.
عند تلك اللحظة خطر الأمر في بالي. مثل ومضة برق، بدا وكأنه حشر في دماغي وتضخم وملأ كل جوانحي. لحظات كانت، قررت بها كل شيء دون تردد. اتجهت نحو المهجع وسحبت حقيبة سفري، وأخرجت بنطالي وقميصي والجاكيت الشتائية التي أحتفظ بها لأرتديها في مدينة خانقين، حين وصولي إليها متجهاً نحو بغداد. خلعت بذلتي العسكرية على عجل، وارتديت ملابسي المدنيّة. لقد اتخذت قراري، ولم أراجع أية احتمالات أو توقعات من الممكن أن تعيقني وتمنعني عنه. احتشدت في قلبي لحظتها عواطف غريبة. الهرب من الموت إلى حافة المجهول هو الأهون أو الأفضل في جميع الاحتمالات. من ساعتها عرفت ما أريد أن أفعله. حسمت أمري وقررت. كل ما يأتي يهون بالمقارنة مع الموت الذي يترقـّبني ليخطفني في أي يوم أو ساعة، وسوف يكون لا مفر منه.
ليس سوى بضعة أيام وسوف أحتفل بعيد ميلادي السادس والعشرين. هاهنّ سنوات عمري الجميلة اهتصرتها الحرب وقتلت أجملهن غيلة. لا ينفع الآن البكاء على ما مضى، فيكفيني ما تعرضت له وأنا أجول مع الموت كل يوم. أعذرني يا أبي فلم تدع الحرب لي خيارا أو فرصة لأكون تحت جناح حنانك، ولا أريد أن تبكيني جسداً مزقته الشظايا. لقد قررت، وإن الوقت يمضي بسرعة وما عليَّ غير اللحاق بهم. فكرتي هذه وحدها من ينتزعني من أتون الحرب. تخيلت وقتها أن أمي تنظر نحوي مشفقة ً دون توسل أو ملامة. طافت صورتها في مخيلتي، فالتصقت عيناي بعينيها. لا تشغلوا بالكم فالعناية الإلهية ستتكفل بكل شيء. قبل أن ينكشف ضوء النهار أكون قد وصلت إلى ما أصبو إليه. صحيح أني مضطرب الآن، والكثير من الخوف يعتمر روحي، ولكني على يقين بأن قراري صائب، ولن أتردّد فيه مهما كانت النتائج. إنها لفرصة لا يجود بها القدر غير مرة.
زيادة في الحيطة اتجهت إلى اليمين وهبطت السلم الصغير، واختفيت تحته أرقب الحرس الآخر الموجود في الباحة الخلفية لمقر الكتيبة. لم أشاهده أو لم يكن موجوداً أصلاً. لذا سارعت أدب وئيداً تحت الدكة العالية للبناية، ثم انعطفت وجلست بالضبط تحت امتداد السقف الظاهر للفناء الخارجي للدار والمشرف على الشارع حيث تجمّع فوقه بعض أفراد الكتيبة يراقبون قدوم أعداد المهجرين. كانت الجلبة القادمة من هناك تقترب شيئاً فشيئاً، وتتصاعد أصوات العويل مع هدير ماء المطر الذي راح يضرب كل شيء، ويحفر في الأرض بقطرات ثقيلة. أرهفت السمع. لم يكونوا قد اقتربوا بعد من مقر الكتيبة. ولكن الصخب والعويل أصبح أكثر قرباً ووضوحاً. سبق جمع المهجرين بضعة بغال يمتطيها المرتزقة الجحوش. كانت المسافة بينهم والمهجرين بعيدة بعض الشيء. بعد عدة خطوات ظهر الجمع وكأنهم غمامة سوداء تتحرك في ذلك الظلام الكالح. المتقدمون منهم كانوا ثلاثة لا يتضح منهم غير كتل بشرية تسير مهدودة منكفئة تجر خطاها بتثاقل، متدلية الأيادي كأنها تحمل أطناناً من أثقال. لم أجد الفرصة سانحة للخروج والولوج بين الصفوف. ولو فعلت ذلك فإن محاولتي سوف تكتشف من قبل جنود الكتيبة الذي تجمعوا فوقي. بضعة أمتار كان عليَّ اجتيازها، ولكن تلك الخطوات ستفضح محاولتي وتفشل مشروعي بالكامل، وربما تذهب بي نحو حتفي. لذا وبسرعة قررت أن أقفز نحو الجهة الأخرى القريبة من فصيل قلم الكتيبة، الذي يبعد عن مكاني بضع خطوات، والواقع عند نهاية الطرف الأيمن لمركز المقر ويحاذي الطريق. وفي هذه الحالة عليَّ أن أحاذر الحرس الآخر عند بناية فصيل القلم. كان الظلام دامساً تخالطه كثافة المطر التي تحجب الرؤية إلى حد ما. ولولا التماعات البرق لما وضحت أي معالم للمكان حتى القريبة مني. تقدمت نحو الجدار الجنوبي أسفل شرفة الفناء، ثم قفزت بخطوات واسعة أصبحت بعدها خلف مقرّ فصيل القلم. لم أجد حرساً هناك. الاحتمال الكبير أنه ترك موقعه وذهب مع جمهرة الجنود في المبنى المجاور. وهم الآن منشغلون في التطلع إلى الجهة الأخرى حيث يقترب حشد المهجرين. جلست متحفزاً للوثوب نحو مجموعة المهجرين حين يقتربون من المنعطف. وضعت الكوفية لأغطي بها رأسي ووجهي حذراً وتمويهاً.
اقترب جمع المهجرين من المنعطف القريب، فشعرت بحرارة تخرج من جسدي وبدأت أعضائي جميعها ترتعش. تملكني خوف حقيقي، فرحت ألعق بعجالة قطرات المطر المتساقط فوق وجهي. لحظة المجازفة لها ثمن ليس بالهيّن. وإن اكتشفني جنود الكتيبة أو الجحوش المرافقون لمجموعة المهجرين، فسوف تحل الكارثة فوق رأسي وتكون نهايتي. شعرت بأن قدميّ تغوصان في الأرض اللزجة. المكان وحشد المهجرين استوليا كلياً على تفكيري، وما عدت أفكر بشيء غير التهيؤ للوثوب وكيفية القيام بالحركة الأولى. كانوا يسيرون مثل موكب جنائزي. العجائز الثكلى تجر أجسادها الخاوية، وبضعة من فتيات مرتعشات يلتصق بعضهن ببعض خائفات مرعوبات، وهناك في الخلف تسير مجموعة من شيوخ تنوء بأجسادها. الجميع وكأنهم أنقذوا توا من غرق. أسمال مبتلة تلتصق على أجسادهم، وطين الأرض كان يثقل خطواتهم. ملابسهم بدت مثل خرق يغطيها الوحل. وكان نواحهم الجنائزي كمن يعاتب الربّ على فعلته في هذا الوقت. تحت التهديد ومن ثم التهجير، ترشقهم السماء دون رحمة بهذا الغضب الذي لا يرحم حتى ضعفهم وما تحملوه من مشاق.
يتبع ج3
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط