رحل غورباتشوف وعَينه على سلام صَنعه هو وأضاعه خُلفاءه وحُلفاءه

خلال السنوات السِت التي قضاها في السلطة نهاية ثمانينات القرن الماضي غيّر ميخائيل غورباتشوف العالم، ليَرحل عنه في 30 أغسطس 2022 عن عمر ناهز 92 عاماً. بذل غورباتشوف جهداً جباراً أكثر من أي سياسي آخر لإنهاء الحرب الباردة سلمياً، فقد كان حاسماً خلال زيارته الى برلين في الذكرى 40 لتأسيس جمهورية ألمانيا الشرقية في أكتوبر1989، وأوضح حينها لقادتها بأن موسكو قد سحبت ثقتها في نظامهم، تلاها إنسحاب حوالي 350 ألف جندي سوفيتي من ألمانيا الشرقية، ما مَهّد لإعادة توحيد ألمانيا، وهو حلم كان أشبه بالمستحيل وما كان ليتحقق لولاه. الألمان مدينون له بالكثير، بل ويعتبره الكثيرون منهم بأحد آباء الوحدة الألمانية. لم يهدم غورباتشوف جدار برلين بمفرده، بل ساعدته في ذلك الإرادة الجبارة للشعب الألماني، لكن معوله كان الأول والأساسي، ولم ينسى له الألمان ذلك، فإحتفوا به في حياته، وأكرموه بعد مماته، وللتعبير عن ذلك أمَرت وزيرة الداخلية الفيدرالية نانسي فيسَر برفع أعلام الحداد على الدوائر الفيدرالية في برلين بمناسبة مراسم جنازته التي أقيمت في موسكو يوم السبت المصاداف 3 سبتمبر، كما رفعت الأعلام على مبنى الرايشتاغ يوم الأربعاء المصادف 7 سبتمبر.

كان غورباتشوف رجل دولة فريد، لم يُغيّر مجرى التاريخ فحسب، بل وصنعه برؤيته المميزة للسلام والحرية، وقد نجح بتنفيذها في بلد وعالم بدا فيه هذا الأمر غير وارد، وهو ما مَكّن بلاده والعالم في ذلك الوقت من التنفس مرة أخرى، فقد تمكن مِن إصلاح منظومة شمولية كالإتحاد السوفيتي من الداخل دون إراقة دماء، بفضل خطته الإصلاحية البريسترويكا. بعد عقود من الحرب الباردة، أعطى غورباتشوف الأمل للجميع، وشكّل وَعي جيل كامل في التسعينات آمَن بأفكاره ودَعَم خطواته الإصلاحية. حتى بعد تركِه للسلطة بعقود ورغم رحيله قبل أيام، لا تزال هنالك رغبة بالتغيير والأمل بمستقبل أفضل، بعد أن أثبت أن التغيير الى الأفضل ممكن. ليس لزاماً في لحظته الآنية التي نريد، بل ربما في وقت آخر! وليس مرة واحدة بالضرورة، بل ربما على نطاق محدود أولاً، أو بشكل تدريجي! والدليل ما حدث خلال مراسيم توديع جثمانه في قاعة الأعمدة وسط موسكو، قبل أن يوارى الثرى في مقبرة العظماء، فخلافاً للتوقعات توافد الآلاف لإلقاء النظرة الأخيرة على غورباتشوف، ما إضطر لجنة العزاء التي حددت ساعتين لهذه المراسيم، لإعتقادها بأنه لا يتمتع بشعبية بين الروس، لأنهم يحملونه مسؤولية تفكك الإتحاد السوفيتي، كمل تروج بروباغندا اليسار، الى تمديد الوقت نظراً للحضور الكثيف وطوابير الزائرين الذين إصطفوا لمسافات طويلة أمام القاعة، والذين كان ملفتاً تواجد عدد كبير من الشباب الذين وُلِد أغلبهم بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي بينهم. مما يوحي ويبشر بأن رؤية الجيل الجديد لمستقبل روسيا، هي أقرب الى رؤية غورباتشوف، منها الى رؤية الحرس القديم من ورثة الكي جي بي.

لقد قدم غورباتشوف الحرية لملايين الناس في روسيا ودول شرق أوروبا، التي كان تقبع تحت نير شمولية نظام الإتحاد السوفيتي الشيوعي ودكتاتورية ماريونيتاته، الذين كان الكرملين يعينهم وكلاء له ببلدانهم لتبقى وشعوبها تحت سيطرتهم، وجزء من منظومة مشروعهم التوسعي الهجين الذي تأسس على جماجم ملايين الروس الذين تمت إبادتهم من قبل السفاح ستالين، وإستمر عِبر سرقة خيرات دول شرق أوروبا بإسم الإشتراكية، وكان يواصل زحفه على دول العالم كالأفعى، ويَدس سُمّه بعسَل شعارات البروليتاريا والمساواة. إن مفاهيم الحرية التي ترسخت في عموم أوربا، وتدافع عنها أوروبا اليوم بوجه من يدعي أنه خليفة غورباشتوف، كان للأخير دور كبير بإحيائها وترسيخها. لقد فهمت أغلب شعوب أوروبا الشرقية هذه الحقيقة، لهذا تقف اليوم صفاً واحداً الى جانب أوكرانيا بوجه الغزو الروسي لأراضيها وقتله وتهجيره لمواطنيها، دفاعاً عن هذه المكتسبات، وعلى الروس اليوم الدفاع عنها، لأنها توفرت لمحيطهم مِن خلالهم عِبر إصلاحات غورباتشوف، لخدمة بلادهم التي باتت منبوذة بسبب رعونة ساستهم الحاليين الذين خانوا إرثه، وللنهوض بها وإخراجها من عزلتها وإعادتها لمكانتها التي تليق بها عالمياً كدولة حضارية وليس توسعية، عِبر إصلاح نظامهم السياسي، ليس فقط كآلية عمل بل كفلسفة تفكير، ربما بمساعدة الغرب، والتعامل مع محيطهم الإقليمي وفق سياسة إحترام متبادل، وليس سَيّد وأتباع أو زوج وزوجة أو أم وبنات، التي يتبناها بوتين ويُرَوِّج لها ويتعامل بها مع الآخرين. فأوكرانيا وجورجيا ولاتيفيا وأستونيا ولتوانيا وباقي جارات روسيا، لم تكن ولن تكون يوماً تابعة لها وهي السيّد، ولا مَثنى وثَلاث ورُباع وجواري لها وهي الرجل، ولا بناتها وهي الأم، خصوصاً إذا علمنا، وهو أمر يجهله أغلب المُطبّلين لبوتين، أن كييف كانت عاصمة لروسيا لقرون قبل موسكو، أي أنها صِنو ونِد لا تَبَع لها. لذا فالأمر أعمق تأريخياً وأوسع إنسانياً من أن يختزله بوتين في هلوساته الأوراسية التي يوسوس له بها شيطانه دوغين، وعاجلاً أو آجلاً سيَفهم ذلك، لكن الثمن سيكون حينها كبيراً من أرواح جنوده وإقتصاد بلاده وسمعتها عالمياً، وهذه واحدة من تداعيات الثقافة التي تبنتها النخبة السياسية الروسية لعقود، وسعى غورباتشوف الى تغييرها بإصلاحاته، لكن الوقت القصير الذي حدثت خلاله، والتغيرات الدراماتكية التي رافقتها، ليس فقط على مستوى روسيا بل والعالم، حالت دون ترسخها لدى النخب الحاكمة التي تلته، وبوتين مثال على ذلك.

ربما يَنظُر البعض إلى غورباتشوف في روسيا اليوم من منظور يَظلمه، بين أوساط مجتمعية ذات صوت عالي، تحركها بروباغندا سياسية، رأسها الذي يُنَظِّر يميني متطرف كألكسندر دوغين، وذراعها التي تُنَفِّذ نرجسي مُختل كبوتين، باتت تثقف أجيال، ليس فقط على مستوى روسيا، بل وعلى مستوى العالم، خصوصاً بين مجتمعات سادِيّة ذات وعي قطيعي كبعض مجتمعاتنا التي باتت تصف بوتين “أبو علي” وتأخذ عزاء إبنة دوغين، على أن غورباتشوف خائن عميل للغرب، وتصفه بحَفّار قبور الإتحاد السوفيتي. لكن الحقيقة هي أن العالم لم يشهد قط رجل دولة، جعل العالم مكاناً أكثر سلماً وأماناً وأفضل للعيش، مثل غورباتشوف. كان الراحل مثالاً لمقدار ما يمكن لفرد واحد أن يفعل، وأن يذهب بتحقيق أحلامه الى آفاق لا حدود لها. لقد أعاد غورباتشوف صياغة التاريخ، وأوجد فرصاً، للأسف فَرّط بها خلفاءه بإستهتارهم وطيشهم، وأهدَرها الغرب بسلبيته وسذاجته، وهو ما أوصل روسيا وأوروبا والعالم الى المأزق الذي يعيشونه اليوم.

مصطفى القرة داغي

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here