القصف الايراني.. الأعراس التي لم تكتمل والولادات التي انتهت بالموت

سامان نوح

مازالت هاينا، الطفلة ذات العامين، والتي نجت عائلتها من القصف الايراني بالصواريخ والمسيرات الانتحارية يوم الأربعاء (28 ايلول) تغلق اذنيها بكلتا يديها كلما سمعت صوتا قويا. ربما رعب تلك الساعات لن يغادرها طوال سنوات عمرها المقبلة، هذا ان كتب لها العيش في ظل توالي موجات الصواريخ الايرانية على مخيم اللاجئين حيث تعيش.
ذلك القصف الذي جرى بأكثر من 73 صاروخا وعشرات الطائرات المسيرة المفخخة بحسب الحرس الثوري الايراني، وتركز في كويسنجق التابعة لأربيل، اوقع 18 قتيلا وأكثر من 50 جريحا، بين الضحايا “ريحانه” التي كانت حاملا في شهرها الثامن بابنها “وانيار”.
قتلت الأم نتيجة اصابة بليغة، وجرى انقاذ الطفل بعملية ولادة عاجلة، لكن “وانيار” وهو الاسم الذي كانت “ريحانة” قد اختارته “ولد بلا أمل”، فاصابتها كانت قد أثرت عليه، فعاش نحو 30 ساعة فقط بقلب نابض وصدر عاجز عن ايصال الاوكسجين للدماغ الذي تعطلت وظائفه، ليدفن لاحقا الى جوار أمه التي “انتظرت بصبر رؤيته وحمله وشم رائحته لكن حلمها لم يتحقق” يقول والده “زانيار رحماني” بعيون دامعة “فقدت كل شيء، وتحطمت كل احلامنا”.
يشبه المكان الذي انهالت الصواريخ الايرانية عليه ساحة معركة. يعم الدمار كل ركن فيه، وتفوح رائحة الحرائق ويتناثر الرماد مع كل حركة مختلطا أحيانا ببقايا الدماء التي اصطبغت بعض انقاض الأبنية التي ضمت مقار حزبية ومرافق سكنية قريبة.
هناك في مقر للحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني، قتل “محمد خليلي” تاركا خطيبته “ريزان حسن” وحيدة مع تجهيزات عرسهما الذي لم يحصل. تقول خطيبته بعد موجة نحيب طويلة فيما كانت الدموع تنهال على وجهها “بدل ان أرتدي الفستان الأبيض ارتدى هو الكفن الأبيض ولبست الأسود.. ماذا تريدون أن أقول؟.. ماذا أقول؟”.
يقول قائمقام قضاء كويسنجق طارق حيدر، ان الهجمات شلت الحياة وأدت الى نزوح نحو 700 عائلة من مخيم آزادي للاجئين وقرية شيله القريبة، وان اهالي المدينة يأوون النازحين في بيوتهم وهناك بيوت تستضيف عائلتين او ثلاثة في وضع انساني صعب.
شمالا في برادوست بسيدكان فيما يعرف بالمثلث العراقي الايراني التركي، أخلى السكان اربع قرى وهجرت عشرات العوائل بيوتها ومزارعها، مع تواصل تساقط الصواريخ والقذائف منذ سبعة أيام. صواريخ وقذائف تركية حينا وايرانية حينا، يختلط الأمر على الجميع، وبالكاد يميز العسكريون هل الموجة الاخيرة من القصف كانت ايرانية ام تركية.
يقول سليم، وهو راعي مواشي من المنطقة، وهو يضرب كفيه ببعضهما “تركنا كل شيء خلفنا، لا نعرف ان كنا سنعود مجددا”. يتابع الرجل وهو يمسح قطرات علقت في جبينه رغم برودة الجو “كل بضعة اشهر نخلي قرى ونترك حقولا خلفنا ومناطق رعي، وتتسع الأراضي التي تعلنها تركيا محظورة”.
يكمل، وهو يرفع صوته الذي يملؤه شجن عميق “لا نعرف الى متى سيستمر هذا الحال؟.. نحمد الله اننا خرجنا سريعا، وأنقذنا عوائلنا من الموت”.
بينما يفر المدنيون العراقيون الى عمق الاقليم، ويدفن اللاجئون الايرانيون الهاربون من بطش النظام، ضحاياهم، يتوعد قادة الحرس الثوري الايراني الاقليم بمزيد من الضربات، مطالبين بطرد اللاجئين الايرانيين المعارضين للنظام ونزع أسلحتهم (المحدودة اصلا والتي لا تتعدى الخفيفة). معارضون تقول ايران ان “لا وزن لهم ولا تأثير في الداخل”، لكنها تنهال كل بضعة اشهر عليهم بعشرات الصواريخ وبسيل من المسيرات الانتحارية.
في ذات الوقت يعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، عن قيام قواته بقصف مواقع لحزب العمال الكردستاني بمنطقة آسوس في العمق العراقي “على بعد 140 كيلومترا من الحدود”.
تركيا التي تقصف يوميا الاقليم بالمدفعية وتمسح طائراتها المسيرة صباح مساء مناطق تمتد لمئات الكيلومترات وبعمق يتجاوز 100 كلم، تخلف عمليات قصفها اضرارا مادية كبيرة، فيما يقوم جنودها بقطع ممنهج لأشجار الغابات على طول الحدود لتحملها لاحقا الشاحنات الى تركيا في مشهد بات مألوفا يدمي قلوب المواطنين الكرد، الذين لا يسمعون من قيادات حكومتهم غير تمتين وتطوير العلاقات مع الجارة الصديقة.
حكومة أنقرة لا تملك حلا غير المضي في معاركها في اقليم كردستان لكسب تأييد القوميين الأتراك، فالانتخابات التركية القريبة تفرض الحديث عن انتصارات وان كانت وهمية. فحكومات الدولة ذات ثاني أكبر جيش في الحلف الاطلسي تقاتل منذ 40 عاما حزب العمال الكردستاني، دون ان تنهي او تكسب الصراع، وهي تتحدث سنويا عن قتل المئات وأحيانا الآلاف من العماليين الذين كما يبدو يتكاثرون بالتشاطر فكيف بحزب “ضعيف مهزوم ومذموم من كل الكرد” وفق الروايات التركية لا يملك الا بضعة مئات من المقاتلين، ان يستمر وجوده مع كل هذه العمليات والهجمات وبيانات التحييد التركية.
وفي ايران لا يجد رجالات الدولة التي تريد ان تكون صاحبة التأثير والصوت الأعلى اقليميا، أمام احتجاجات واعتصامات الداخل، التي تستمر آخر موجاتها منذ اسبوعين والتي تقودها نساء، غير استهداف لاجئين هاربين من قمعها الى اقليم كردستان.
وسط استمرار سقوط الصواريخ والقذائف التركية الايرانية، يدفن الكرد قتلاهم ويداوون جرحاهم وهم يحكون لأطفالهم الذي خرجوا سالمين من جحيم الأنظمة الديمقراطية العلمانية والاسلامية، التي تختلف على كل شيء لكنها تتفق على ابادة الكرد وتروج أن الهاربين من طغيانها يشكلون دائما خطرا على جمهورياتهم الديمقراطية وشعارات حرياتهم الدينية والقومية.
يحكون قصص النجاة من المحارق، قصص الأعراس التي لم تكتمل والولادات التي انتهت بالموت. ستسمع “هاينا” عندما ترفع يديها عن أذنيها، الكثير منها، قبل ان تكبر على مشاهد الروايات الكاملة لجمهوريات الموت في الشرق الاوسط العتيق الذي رسمت حدوده الدماء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here