سيرة ليست للسرد ج4

فرات المحسن

رفعت صوتي منادياً ثم استدرت متوجهاً صوب المرتفع الذي تقع عنده تلك البنايات الطينية المهدمة. استداروا وتبعوني. كانت الريح العاصف والمطر الكثيف يلهب الأجساد بسياطه، والرعود تصك الأسماع، وتتهشم البروق عند حواف الجبال. نظرت نحوهم، كانوا يجاهدون في سيرهم، ثقال أنهكهم التعب. سقط بعضهم ثم نهض. آخرون مدّوا أجسادهم فوق الأرض الحجرية. لم أحتمل الانتظار ومواصلة النظر إليهم، لذا جرجرت قدميّ، واتجهت أسبقهم إلى أن وصلت الخربة القريبة وهي أولى البنايات فوق حافة المرتفع. كانت مهدمة بالكامل. طرحت جسد الشيخ أمام بابها. انتابني شيء من الغثيان وأنا أشاهد جسده المسجى وتلك الكهولة الجافة المزرقة وضعف البدن المفزع. ولكن ما عليَّ أن أفعله الآن وأنا في ورطة لم تنفرج بعد، وخوفي أكبر من أن يطمئنه وجودي في هذا المكان. لذا عفته هناك و توجهت إلى الخربة الأخرى، فوجدت سقفها وقد هد بالكامل. رحت أبحث في البيوت الأخرى إلى أن عثرت على غرفة واسعة كان سقفها قد تهدلّ نصفه، وأطبق على الأرض تاركاً فراغاً يصلح كستر عن المطر. ناديت على من تقدم منهم وطلبت أن يحتموا هناك. تجمعوا والتصق بعضهم ببعض. ذهب الباقون يبحثون عن أماكن يحتمون بها، ورجعت أنا وجلبت الجثة، ووضعتها فوق السقف المنهار خوفاً من أن تأكلها الحيوانات البرية التي تجوب المكان ليلاً.

ليس بعيداً عن الباب كانت هناك كومة قش طمرت تحت جدار مهدود، أزلت وجهها محاولاً العثور على الجاف منها، في النهاية وجدت الشيء القليل فجلبته إلى الداخل، ثم رجعت أبحث عن حطب أو خشب أستعين به لإشعال موقد من النار ننال منه بعض دفء. جمعت ما وجدته وبدأت العمل. بعد جهد طويل استطعت أن أشاهد وهج النار وهي تلتهم التبن، فرحت أنفخ به ليتسرب إلى باقي الأخشاب. بدأت النار تتصاعد شيئاً فشيئاً، فشعرت بالحرارة تضرب وجهي، والدفء يدب في أصابعي. اقترب بعضهم وتحلقوا حول النار. على ضوئها طالعت وجوههم، فكانت جميع العيون تتجه صوبي تتفحصني. لم ينبس أحدنا بكلمة، كان الصمت يجول مع النظرات الفزعة المتسائلة. أين نحن؟ من أنت؟ إلى أين نحن سائرون؟ متى نخرج من هذا المكان؟ ربما هي تلك الأسئلة لا غيرها تعتمر بها أرواحهم ويريدون مني الإجابة عليها. ولكن بم أجيبهم وكيف أفسر الموقف. أأقص عليهم حكايتي أم الصمت أجدى. لأدعهم في حيرتهم، فربما طمأنهم وجودي بينهم أو اكتفوا بما شاهدوه ونالوه مني.

فجأة سمعت حفيف الهواء وصوت القنبلة وهي تخترقه لتسقط قريبة من المكان. قدرت أنها سقطت خارج البيوت عند نهاية المرتفع، بعيدة بعض الشيء. تيقنت أن الراصد سوف يصحح إحداثيات الهدف ليرشقنا بدفعة جديدة من قذائف المدفعية. انتظرت حدوث هذا. ومثلما توقعت سقطت قنبلة أخرى، ولكنها كانت بعيدة أيضاً مثل سابقتها، ثم مرّت دقائق معدودات دون أن يتكرر الرمي، وطغى هدير المطر وصوت الرعد على كل شيء.

ـ ربما يكون ضوء النار والدخان هو من يدلهم على مكاننا. من المناسب أن نطفئ النار.

قلت ذلك وجلت نظري بين وجوههم الشاحبة اليائسة.

ـ دعهم يفعلون ذلك، فما عاد للحياة من معنى يا ولدي. لقد سلبونا كل شيء وطردونا من بيوتنا، فهل بعد ذلك تستحق الحياة أن تعاش؟

صمت وأنا أنصت لتلك العجوز ذات العيون الكابية وهي تلوك جملتها المفزعة، وتعلن طلاقها التام مع الحياة. وكنت حينها أرهف السمع لأتسقط صوت القنابل إن عاود المدفع وكرر الرمي. ولكن كل شيء بدا وكأنّ الأمر انتهى مع تلك القنبلتين.

*****

كان السهل يمتد طويلاً أخضراً مقفراً، عدا تلك القرى المهجورة المتناثرة البعيدة. جلت نظري في جميع اتجاهاته، فكانت نهاياته تتلاشى شيئاً فشيئاً وسط ضباب أبيض تدفع به سخونة الأرض بعد أن توقف المطر عن الهطول. كانت الأصوات الباكية مازالت تتردد موجوعة مستفزة تثقب الرأس، وتبعث في الروح كدراً ويأساً مفرطاً. استدرت ناظراً نحو باب الخربة، كانت تقف هناك امرأة صغيرة الحجم متشحة بالسواد تطالعني بفضول وحذر، سألتها إن كانت بحاجة لمساعدة، لكنها أشاحت وجهها واستدارت لتدخل الغرفة. فكرت بجسد الشيخ المسجى وما عليّ أن أفعله. مهمة شاقة في هذا الوضع المأزوم والجو المكفهّر. أكان عليَّ الاستمرار معهم لحين الوصول إلى سواتر الجيش الإيراني أم من الأفضل وبعد أن بدأ الضياء الأول يكللّ سنام الجبل من الجهة الشرقية، أن أسير وحدي إلى هناك، وأدعهم يستدلون على الطريق بعد أن أعرفهم عليه. من الجائز أن القدر وحده من دفعني لأكون لهؤلاء دليلاً ليل البارحة. فمسيرهم في ظلمة الليل كان من الجائز أن يدخلهم وسط حقول الألغام أو يتجهون نحو فصيل الحجاب، وهناك يقع لهم ما هو محذور. ليس من الأخلاق أن أدعهم يتخبطون في تلك الوهاد. نظرت نحو جسد العجوز المسجى منذ البارحة فوق سقف الغرفة المائل. أردت أن تحضر الفتاة وأحدثها بالأمر وتلقي عليه نظرة الوداع. دخلت إلى هناك وجدت الجميع متراصين لبعض، فبدوا لي مثل كومة ملابس رثة حائلة الألوان. أشرت نحو الفتاة داعياً إياها للمجيء لأحدثها بما وقع. تقدمت مني ولكنها وقفت بعيداً بعض الشيء، كما لو أن غريزة الخوف قد حددت لها المسافة. كان وجهها حاداً غليظاً ولكن بمسحة جمال ظاهر، شعرها المنفوش الأشيب قد تلطخ بالوحل. عند انكشاف ضوء الصباح الأول رأيت وجهها المكلل بالحزن. قوية صلبة العود، عيناها الداكنتان كانتا تحملقان بي، مستني رعشة حين نظرت بهما. شاهدت وجهها بتلك الطلة البهية رغم كدره وفزعه، وشعرها الأشعث الأشيب. اقتربت مني وشكرتني بصوت خافت ناعم. وددت لحظتها أن أسألها عن اسمها ولكن لساني انعقد خجلاً وعزفت أيضاً عن رغبتي في معرفة علاقتها بالشيخ المتوفى. كانت تعصر كفيها ببعضهما وعيناي مثبتتان عليها، أتملى قوامها المشدود وصدري يصدر زفرة قوية.

ها هي زهرة شبابها تذهب إلى المجهول وربما تذوي هناك.. كم من الأعوام اغتصبت منها عنوة ؟.. ترى أهي متزوجة ؟.. أكان لديها أطفال؟ هل زينت جيدها بالقلائد مثل باقي النساء السعيدات. لم تعافها عيناي وهي تسير أمامي في هذا الصباح. وددت أن أقترب منها لنتجاذب الحديث، ولكنها كانت تسير وسط الجمع بخطوات وئيدة مكدودة محزونة، وكأن أحداً ما يقودها إلى حيث لا تدري. وجهها لا يفارقني، ملامح الفزع في عينيها لا تغادر خاطري. حين أخبرتها بوفاة الشيخ لم تحاول الاقتراب منه للتحقق من الأمر، مرت فترة طويلة كانت فيها جامدة مكانها وعيناها مثبتتان على وجهي، قبل أن تنهار وتروح في نوبة متشنجة من بكاء مر.

ـ الشيخ توفاه الله منذ ليل البارحة والمسافة إلى موقع الجيش الإيراني طويلة جداً، لذا علينا أو الأحرى عليك أن تقرري ما نحن فاعلوه مع الجسد الراقد فوق السقف.

جالت نظراتها أركان المكان وكأنها تبحث عنه غير مصدقة حديثي. قلت لها صدقيني لقد وضعت جسده هناك. أشرت لها نحو المكان لكنها لم تلتفت، وبحركة سريعة لطمت وجهها، وجلست على الأرض وراحت في نوبة بكاء حاد. خرجت النسوة وتحلقن حولها نائحات لاطمات، لقد سمعن حديثي، كنت متيقناً من ذلك، لذا دخلت الغرفة وطلبت من أحد الشيوخ أن يوافيني لندفن الجثة. تبعني بهدوء وتثاقل ووقف جواري ينظر إلى النساء. كان كهلاً يبدو في السبعين من العمر وقامته الطويلة الضخمة بعض الشيء لا تتوافق وصغر رأسه. ذهبنا سوية نبحث عن مكان مناسب نواري به الجسد. وجدنا خلف الغرفة ما يشبه الملجأ الشقي، وكان حفرة مهملة ممتلئة بالماء غطت الحشائش وجهها. فأشار علي الكهل بأنه المكان المناسب، فسألته كيف يتسنى لنا إخراج الماء، لم يحر جواباً واقترح أن نذهب ونفتش في الخرائب لعلنا نجد ما يساعدنا على ذلك. تركته يذهب نحو مجموعة النساء وأنا اتجهت باحثاً في الغرف الأخرى. عند الطرف الأيسر من المرتفع وجدت مجموعة قدور، فأخذت أحدها مع غطائه وعدت إلى هناك. حين شاهدني راجعاً قال إنها فكرة جيدة يا ولدي. أخذت أفرّغ الحفرة من الماء، وبعد أن أكملت المهمة دعوته ليجلب الجثة. فامتنع وقال افعل أنت ذلك فلا طاقة لي عليه. ضجت النسوة بالنواح حين رفعت جسد الشيخ المتيبس وحملته متوجهاً به حيث الحفرة. لم تعترض الفتاة طريقي وكنت أنظر نحوها وأنا أرفع جسد الشيخ، وجدتها مطرقة نائحة تضم وجهها بين كفيها. العجائز وباقي الشيوخ والنساء تجمعوا وساروا ورائي صامتين وكأنهم قد اقتنعوا بما نالهم من فاجعة موت أحد شيوخهم. كان جسدي يرتعش وكأني أصبت تلك اللحظة بالحمى. فللمرة الأولى أدفع بجسد ميت لأواريه التراب، البارحة حدثته طويلاً ولم أكن مقتنعاً بتلك النهاية، حدثته وكنت أرطن خوفي وفجيعتي. أثرثر لأطمئن روحي وروحه، واليوم أسحبه لأولجه في صمته الأبدي. أيّ قدر قادني لهذه الصحبة وتلك الساعات؟

وقفت عند الحفرة، فوجدت الشيخ وقد جمع كومة من حشائش وتبن ووضعها في اللحد، فنظرت إليه بعين الرضا والعرفان. وضعت الجسد هناك وألقيت عليه نظرة الوداع. وقبل أن أهيل التراب فاجأني الشيخ بسؤال أربكني.

ـ أتعرف يا ولدي أين اتجاه القبلة ؟

ـ عذرا يا عمي لا أعرفها.

ـ أين نحن الآن.. في الأراضي الإيرانية أم العراقية ؟

ـ نحن في سهل سربيل زهاب الإيراني.

ـ حسناً.. وفي أي اتجاه يقع العراق ؟

أشرت له نحو جهة الغرب، وأخبرته أن إيران هي جهة الشرق وتلك جهة الشمال من المكان هذا. عند ذلك طلب مني أن أدير الجسد إلى الجهة الأخرى ليستقبل الرأس جهة الجنوب، وهي جهة القبلة مثلما عرفت. ففعلت ذلك. ثم أهلت عليه التراب بواسطة غطاء القدر. أنجزت العملية، وتوجهت نحو الجمع وأخبرتهم بأن علينا التحرك والابتعاد عن المكان.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here