فرات المحسن
الفجر يتشبث بأذرعه متسلقاً سفوح المرتفعات. الحمرة الشفيفة تخالطها صفرة ينتعش بها الصباح، فجاءت معها نسائم طرية وأصوات طيور ترف بأجنحتها في السماء الواسعة، وتطلق أصواتها التي راحت تتردد حولنا. سرب كثيف من زرازير اخترق الضباب وانبلج من وسطه مثل غمامة سوداء، راح يدور ويدور، ثم حط ّ بعيداً، هبط نحو البساط الأخضر وصوت حفيف أجنحته مثل طنين نحل.
لحد الآن ليس هناك قصف لمدافع، ولا يسمع سوى إطلاق رصاص متفرق تأتي أصواته من بعيد مع حفيف الهواء، ولكنه غير ذات أهمية أو مبعثا للقلق. صوت أقدامنا وأحذيتنا المحتكة بالحصى، وخرير المياه المنسابة من المرتفعات وحدهما ما يتردد حولنا. وكانت عيناي ترقبان الأفق الشرقي حيث الجانب الإيراني خوفاً من أن يلتبس عليهم أمرنا، ويبدؤون الرماية اتجاهنا. اتسعت المسافة بيني وبين الآخرين وما كانت عندي تلك اللحظة رغبة في انتظارهم. المسافة التي قطعناها أبعدتنا كثيراً عن سواتر الجيش العراقي وأصبحنا قريباً من الجانب الإيراني. استدرت فوجدت البعض وقد اتجه في سيره نحو أولى القرى الخربة التي صادفناها في طريقنا، واستمر الباقون اللحاق بي. ما أردت أن أصل وحدي إلى هناك، ولكن سيرهم المتثاقل كان يقيدني ويجعلني في حيرة من أمري، فأنا دليلهم ورغبت أن يصلوا دون أن يطالهم مكروه، فأرض السهل ممكن أن يخطأ المرء في منحدراتها، ليجد نفسه وسط حقل ألغام. ولكن وصولي قبلهم وإخبار الجانب الإيرانيّ عنهم، ربما يساعد في إنقاذهم مما هم عليه الآن. تلك الساعة كان فكري مشوشاً، وشعرت بالحيرة في اتخاذ القرار. ولكن في النهاية حسمت أمري، وبدأت أغذ السير لأصل إلى الساتر الإيراني. حصرت تفكيري في إخبار الجنود الإيرانيين عن وضع هؤلاء المهجرين لعلّهم يجدون وسيلة، ويسرعون في تقديم المساعدة.
بدأ قرص الشمس يرتفع رويداً لتنسكب أشعته الصفراء، وتغطي السهل الأخضر وتبعث حرارتها بعض الدفء. خطواتي الواسعة السريعة صار جسدي معها ينز عرقاً. لم ألتفت ورائي فما عدت بحاجة لمرافقتهم أو حثهم على السير، وأعتقد بأنهم كانوا يشاهدونني جيداً ويسيرون بذات الطريق.
ظهرت لي أولى ملامح السواتر الترابية الإيرانية حيث تبدو فوقها بعض نقاط مراقبة. أخذت أبطأَ في مشيي، وفكرت بحاجتي إلى ما يدفع عني ظنونهم ويجعلهم يعزفون عن توجيه أطلاقات بنادقهم نحوي. عجزت عن إيجاد ما أريده، فأنا لا أرتدي فانيلة بيضاء وقميصي ليس كذلك، وعليَّ أن أجد وسيلة تجعلني أصل إليهم بسلام فرحت ألوّح بالكوفية بالرغم من أنها كانت كحلية مائلة للسواد.أيضا رفع اليدين إلى أعلى ممكن أن يعني لهم رغبة بالاستسلام. صعدت المنحدر نحو أعلى التل، ثم اقتربت من الساتر الترابي رافعاً يدي. كانت هناك فتحة في جهته اليمنى اتجهت نحوها. لم يظهر لي أيّ شخص ولم أسمع صوتاً يدعوني للتوقف. اقتربت محاذياً الساتر، ثم وصلت الفتحة فوجدت هناك مجموعة من جنود يصوبون بنادقهم نحوي. تقدم أحدهم ولفّ ذراعيه حولي بقوة، وتقدم آخر يتفحص جسدي ويستخرج ما في الجيوب، ثم انتزع مني قرص الهوية. تكلم أحدهم بلغة عربية سليمة سائلاً عن سبب قدومي، فأخبرته رغبتي باللجوء إليهم، وحدثته عن وجود مجموعة كبيرة في السهل قريباً من هنا، هم مهجرون من العراق. أخذوني إلى أحد الملاجئ وقدموا لي الماء وبعض الطعام. شعرت ببعض الدفء والطمأنينة، وكان الحارس الواقف أمام باب الملجأ ينظر نحوي بابتسامة ودودة، ويكلمني بلغة فهمت منها أنه يرحب بي. مضى وقت ليس بالقصير دون أن يستدعيني أو يحدثني أحد. وبين فينة وأخرى كنت أحصل على ابتسامة من الحارس. لم أفكر بالخروج كي لا أخرق أوامرهم وأثير التوجس. سمعت أصوات لغط وصراخ في الساحة أمام الملجأ، تقدمت نحو الباب لمشاهدة ما يحدث فوجدت الجنود يهرولون، وكانت هناك قرب الساتر مجموعة من المهاجرين قد وصلت، فراحت الأيادي تتلقفهم وتقدم لهم العون وتدثرهم بالملابس والأغطية. جيء ببعض الرجال ووضعوهم معي في الملجأ. مظهرهم يوحي بأنهم قد تجاوزوا سنوات الستين من العمر، كنت قد شاهدتهم صباح هذا اليوم حينما كانوا يسيرون جواري، ولكني لم ألحظ وقتها مقدار الهمّ والكدر الذي يوشم وجوههم، وبدو وكأنهم خائفون من وضعهم الجديد. أتوا لهم بوجبة طعام، فراحوا يلتهمونها بشراهة وعجالة. تبادلنا النظرات دون أن ينبس أحدنا بكلمة. كنا جميعاً نحاول إمساك اللحظة، والتيقن من وجودنا في وضع يتوفر لنا فيه شيء من الأمان. بادرني أحدهم بالحديث سائلاً عن سبب مجيئي معهم، فأخبرته السبب بجملة مقتضبة، فلم يعلق بغير كلمة واحده قائلاً: حقك ابني. وكأنه مس في روحي وتراً، شعرت بشيء من الراحة والعرفان، وكنت في حاجة ماسة للحصول عليها في مثل وضعي هذا، وتمنيت لحظتها لو أني سمعتها من فم أبي. لم يحدثني الآخرون وإنما راحوا يتحدثون بلغتهم الكردية المليئة بالمفردات العربية. عرفت منها أنهم يتساءلون عن مصير أشخاص تركوهم هناك في العراق بعد أن احتجزتهم السلطة العراقية أو ربما هجرتهم من أماكن أخرى. سهمت متأملاً حالهم المزري ولم أستطع استيعاب الذي حدث لهم، أو أن مثل هذا لا طاقة لي عليه في ذلك الوقت، ففضلت عدم زج نفسي وإثارة الموضوع والسؤال حوله، بالرغم من معرفتي أن حديث الشجون ربما يفتح بيننا باباً للألفة والتعارف.
لم أحسب مقدار الزمن الذي مضى حين دخل أحدهم ليطلب مني مرافقته. تبعته نحو الخارج. كان الوقت على ما يبدو منتصف النهار، والسماء شاحبة تسمح لبعض أشعة الشمس بالتسلل. هناك بضعة جنود يجلسون متحلقين حول صفيحة أوقدت بها النار، وأسلحتهم طرحت جوارهم. الجميع طالعني حين وصلت وسط الفسحة القريبة منهم. إثنان أو ثلاثة منهم لوحوا لي بأياديهم كمن يحييني، فأجبتهم بذات الحركة. اقتربنا ومرافقي من باب ملجأ محصن لا يظهر منه سوى الباب وكوة صغيرة في جهته اليمنى، وثمة ثلاثة مجسات هوائية قصيرة ترتفع عند جهته الخلفية. أدركت أنه أحد مراكز القيادة لهذه الوحدة العسكرية. فالتحصينات حوله جيدة. تلتف أكياس الرمل لتحيط به بارتفاع يقارب المترين، بالرغم من أن الملجأ قد استوى سطحه مع الأرض، ويختفي خلف ساتر ترابي مرتفع. تقدم مرافقي وتبعته، هبطنا سلماً بعدة درجات ووقفنا أمام باب داخلي، طرق مرافقي عليه طرقاً خفيفاً فجاء صوت ضعيف من الداخل، فدفع الباب وانزوى جانباً ليفسح المجال لدخولي. الملجأ واسع ومنظم ومضاء إضاءةً حسنة. كان هناك عسكريان يجلسان قرب منضدة عريضة وضع فوقها جهاز لاسلكي وعدة هواتف وأوراق مبعثرة، وعلى الجدران علّقت عدة خرائط وصورة كبيرة للسيّد الخميني. أحد الرجلان كان ملتحياً يحمل رتبة عسكرية فوق كتفيه لم أشاهد مثلها أو أتعرف عليها سابقاً. كان شاحب الوجه، ذا عينين واسعتين وحاجبين كثين معقودين وكأنهما جناحي غراب محلـّق. والآخر كان يرتدي بزة عسكرية بدا عليها الإهمال، ضعيف البنية تبرز عظام وجنتيه بشكل دقيق، وعيناه تغوران في محجريهما تحيطهما دكنة رمادية.
حييتهم رافعاً يدي بما يشبه التحية العسكرية، فلم تلتقط أذناي أي كلمة، ولم ألحظ سوى عيونهم تنظر نحوي بلا مبالاة. وند ما يشبه التأوه من الرجل العسكري الملتحي، ثم راح يتحدث بالفارسية وكان الآخر يصغي له بانتباه شديد. انبعث صوت وشوشة مخنوق من جهاز اللاسلكي، فمد الملتحي يده وأخذ السماعتين ووضعهما فوق أذنيه، وأخذ يتكلم مع الطرف الآخر، ثم بدأ ينظر نحوي ويجيب باختصار بكلمة واحدة مع حركة خفيفة من الرأس. وضع السماعة جانباً وتحدث إلى الرجل الآخر، الذي طلب مني الجلوس على الكرسي القريب، ثم بدأت الأسئلة. فرويت لهم ما حدث وسبب هروبي ومجيئي إليهم.
ـ وما اسمك الحقيقي؟.
ـ زياد عبد الملك عبد الرحمن.
ـ هذا اسمك في قرص الدلالة، ولكن اسمك في الهوية مدون زياد عبد الملك الناصر. ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط