المعركة المقبلة حول عضوية مجلس الأمن

حميد  الكفائي
كاتب وأكاديمي عراقي

l 10 أكتوبر 2022 –

تأسس مجلس الأمن الدولي مع تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وضم في عضويته 15 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، عشرٌ منها بعضويةٍ مؤقتة تتغير دوريا، وخمسٌ أخرى بعضويةٍ دائمة، يمتلك كلٌ منها حق النقض (الفيتو)، أي تعطيل أي قرار دولي إن لم يناسبها.

لم يكن التأسيس سهلا، بل استغرق سنين ومؤتمرات عديدة، بدأت في الأول من يناير عام 1942 بالتوقيع على “إعلان الأمم المتحدة” من قبل 26 دولة أهمها الولايات المتحدة وبريطانيا والصين والاتحاد السوفياتي، ثم وقعته لاحقا 21 دولة أهمها فرنسا والبرازيل والمكسيك وتركيا وإيران، وبينها خمس دول عربية هي مصر والسعودية والعراق وسوريا ولبنان.

في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1943 عُقِد مؤتمر موسكو بمشاركة الدول الأربع الرئيسية، لوضع الأسس لإنشاء منظمة دولية تقوم على أسس المساواة بين الدول المُحبة للسلام. وفي نهاية العام نفسه، عُقد مؤتمر طهران، في مبنى السفارة السوفياتية، إذ كانت إيران تحت الاحتلال السوفياتي حينها، حضره قادة الدول الثلاث العظمى، وهم الرئيس الأميركي، فرانكلن روزفلت، والزعيم السوفياتي، جوزف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل. وأكد الزعماء الثلاثة المبادئ الأساسية للمنظمة الدولية الجديدة، وأهمها منع اندلاع الحروب وحفظ الامن والسلام الدوليين. ثم توالت المشاورات بين الخبراء من الدول المعنية في مؤتمرات متتابعة في واشنطن لستة أشهر عام 1944.

بعد ذلك عقد مؤتمر يالتا (في شبه جزيرة القرم) في فبراير عام 1945 حضره القادة الثلاثة، روزفلت وستالين وتشرشل، وحُسمت فيه العديد من الخلافات السوفياتية الأميركية. وبين تلك الخلافات، مثلا، طلب الاتحاد السوفياتي أن تتمثل الدول الخمس عشرة المكونة له حينها، كأعضاء في الأمم المتحدة، فقابلته الولايات المتحدة بطلب مماثل هو أن تكون الولايات الأميركية الثماني والأربعون، أعضاءً في المنظمة الدولية! عندها، سحب ستالين الطلب السوفياتي.

اتفق الفرقاء على الصيغة النهائية لميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر يعقد في سان فرانسيسكو في 25 أبريل عام 1945. وقبيل انعقاد المؤتمر، مات فجأة الراعي الأول للمؤتمر، الرئيس روزفلت، وظن الجميع بأن المشروع كله قد أصيب بالشلل، لكن خَلَفَه، الرئيس هاري ترومان، أصر على عقد المؤتمر في موعده المحدد، وذلك للأهمية الدولية القصوى المعقودة عليه.

وبعد مسار عسير، تأسست الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وأتُفِق على أن يتكون المجلس من 15 عضوا، خمسة منها يشغلها أعضاء دائمون، وهم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا وجمهورية الصين (التي لم يبقَ منها حاليا سوى تايوان). وكانت تلك الدول، أو ثلاث منها، سميت حينها بـ”الثلاث الكبرى”، وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة، الدول المتحكمة بالعالم.

لم تُدعَ فرنسا، التي تحررت حديثا من الاحتلال الألماني، للمؤتمرات الأولى للتأسيس، الأمر الذي وتَّر العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، على الأقل في عهد الرئيس ديغول، الذي لام واشنطن على عزل فرنسا، بينما كان الاتحاد السوفياتي معارضا لوجودها أيضا.

لقد تغير العالم كثيرا منذ عام 1945، وبالتحديد منذ عام 1991. فلم تعد بريطانيا وفرنسا بالقوة التي كانتا عليها سابقا، بينما انهار الاتحاد السوفياتي، ولم يعد موجودا منذ 31 عاما، بل تحولت مكوناته إلى دول متحاربة وذات سياسات متباينة، وخائفة من بعضها البعض. بينما نمت وتطورت دول أخرى كاليابان وألمانيا والهند والبرازيل، وأصبحت مهمة اقتصاديا ومؤثرة عالميا.

أما الصين الشعبية، التي تأسست عام 1949، فقد ظلت خارج المنظمة الدولية رغم أنها كانت تمثل 98% من الشعب الصيني، ولم تحصل على العضوية الدائمة في مجلس الأمن إلا عام 1971، بعد انتزعت المقعد من تايوان، إذ آثرت الدول الرئيسية أن تمنح المقعد إلى الدولة الأكثر تمثيلا للأمة الصينية، رغم أنها لم تكن على وفاق معها، وكان ذلك قرارا صائبا يُحسب للمجموعة الدولية.

هناك الآن مشكلة مماثلة لما عانته الصين بعد تغير نظامها عام 1949، فقد ورثت روسيا عضوية الاتحاد السوفياتي الدائمة في مجلس الأمن بسهولة، علما أن روسيا ليست الوريث الشرعي الوحيد للاتحاد السوفياتي في رأي العديد من خبراء القانون الدولي. فالاتحاد السوفياتي تشكل من 16 دولة، كانت روسيا إحداها.

لقد قبلت الأمم المتحدة بذلك حينها، فهل يمكن تغيير الوضع الآن بعد أن تدخلت روسيا عسكريا في دولتين عضوين في الأم المتحدة، وهما جورجيا وأوكرانيا، وخلقت أزمة اقتصادية وسياسية وعسكرية عالمية؟ وهل يعتبر قبول أعضاء مجلس الأمن الأربعة بوراثة روسيا لمقعد الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن، سندا قانونيا، يمكن روسيا أن تستخدمه فيما لو عُرضت القضية على المحاكم الدولية؟

يعتبر مجلس الأمن المؤسسة الدولية الأكثر تأثيرا في السياسة الدولية، لكن مشكلته الأساسية كانت، ومازالت، امتلاك الأعضاء الدائمين حق النقض، الذي يُبطِل أي قرار دولي لحل المشاكل العالمية. وقد تكررت هذه الحالة مرارا، واستخدمه الاتحاد السوفياتي، ثم وريثته روسيا، 121 مرة، بينما استخدمته الولايات المتحدة 82 مرة وبريطانيا 29 مرة والصين 17 مرة وفرنسا 16 مرة. ومنذ عام 1992، كانت روسيا الأكثر استخداما لحق النقض، من أجل تثبيت وجودها كدولة عظمى، بعد ضمور نفوذها الدولي إثر حل الاتحاد السوفياتي.

وحق النقض لم تبتكره الأمم المتحدة، بل كان موجودا حتى في المنظمة التي سبقتها، وهي عصبة الأمم، التي تأسست مطلع عام 1920 بثمانية أعضاء، أربعة بعضوية دائمة، وأربعة بعضوية دورية، وكان للجميع حق النقض. وعندما توسع مجلس العصبة (الذي يقابل مجلس الأمن حاليا) إلى 15 عضوا عام 1936، وكل عضو له حق النقض، صار صعبا تمرير أي قرار، إذ لابد من موافقة الجميع عليه.

يتعارض حق الفيتو تعارضا صارخا مع العدالة والديمقراطية، كما يرى القانوني فرانسيس ويلكوكس، نائب وزير الخارجية الأسبق لشؤون المنظمات الدولية، في مقال أكاديمي نشرته جامعة كامبريج، ويُعتبَر السبب الرئيسي للتلكؤ في اتخاذ القرارات المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لأنه يمكِّن الأعضاء الدائمين من حماية أنفسهم وحلفائهم باستخدام حق الفيتو.

وفي المحاولة الأخيرة لإصدار قرار من مجلس الأمن حول الحرب الروسية الأوكرانية، فشلت الدول الأعضاء في التوصل إلى اتفاق، بسبب ممارسة روسيا حق النقض لحماية نفسها من الإدانة الدولية، وما يترتب عليها، ما أدى إلى نقل الموضوع إلى الجمعية العامة، التي تَصدُر قراراتُها بالغالبية، لكنها غير ملزِمة. وقد أصدرت الجمعية قرارها في الثاني من مارس 2022 بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ودعتها للانسحاب منها. وصوت لصالح القرار، الذي تبنته 96 دولة، 141 دولة، مقابل خمس دول فقط صوتت ضده، وهي روسيا وبلاروسيا وكوريا الشمالية وسوريا وأرتيريا، بينما امتنعت 35 دولة عن التصويت.

والغريب أن حلفاء روسيا، مثل إيران وكوبا والصين، لم يصوتوا معها، بل امتنعوا عن التصويت، بينما صوت لصالح القرار معظم دول الاتحاد السوفياتي السابق، وبينها جيران روسيا، مثل أستونيا ولاتفيا، ودول تحتفظ بعلاقات وطيدة معها، ووقفت ضد مقاطعة الاتحاد الأوروبي لها، مثل هنغاريا.

هناك الآن دعوات لإخراج روسيا من عضوية مجلس الأمن الدولي باعتبارها ليست وريثا شرعيا للاتحاد السوفياتي، وأنها حلت محله دون وجه قانوني. وقد دعا مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، والباحث في المجلس الأطلنطي، السفير دانيال فريد، في مقابلة مع قناة الحرة أجراها الصحفي ميشال غندور، إلى استخدام الطرق القانونية لإقصاء روسيا من مجلس الأمن باعتبارها ليست وريثا شرعيا لمقعد الاتحاد السوفياتي.

لا توجد سابقة كهذه في الأمم المتحدة، إذا لم تُقْصَ أي دولة حتى الآن من عضوية المنظمة، لكن هناك سابقة في عصبة الأمم، إذ أُقصي الاتحاد السوفياتي منها عام 1939، وكان عضوا في مجلس العصبة ويتمتع بحق النقض، بسبب احتلاله فلندا، إذ اعتُبِر ذلك مناقضا لقانون المنظمة، والهدف الأساس من إنشائها، وهو منع اندلاع الحروب.

لا شك أن مجلس الأمن الدولي بهيئته الحالية لا يتلاءم مع الوضع الدولي المعاصر، فكيف تبقى دولة كبرى مثل الهند، يبلغ عدد سكانها مليار ونصف، ودول كاليابان وألمانيا والبرازيل وإندونيسيا، خارج مجلس الأمن؟ وكيف تتمثل أوروبا بثلاث مقاعد، بينما لا تتمثل قارات أفريقيا وأميركا اللاتينية وأستراليا على الإطلاق؟

وفي ضوء الشلل الذي أصاب المنظمة الدولية بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، وعدم قدرتها على إيجاد حل للمشكلة، والمطالبات بإقصاء روسيا عن مجلس الأمن، فإن إعادة تشكيل مجلس الأمن ستكون القضية الدولية الأبرز في المستقبل، ولن تكون سهلة. سوف يبقى المجلس معطلا مازال الصراع في أوكرانيا مستمرا.

قد لا يكون مناسبا أو عمليا إبعاد روسيا من عضوية مجلس الأمن، فروسيا في النهاية أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، ولديها إمكانيات بشرية واقتصادية هائلة، وأقصى ما يمكن فعله هو تعليق عضويتها لفترة من الزمن، لكن إعادة هيكلة المجلس صارت الآن ضرورة قصوى، من أجل تفعيل دور المنظمة الدولية وتمكينها من أن تلعب دورا أكبر في حل الخلافات والنزاعات الدولية، ومنع اندلاع الحروب.

من المتوقع أن تكون الهند واليابان وألمانيا والبرازيل أعضاءً في مجلس الأمن الجديد الموسع، لكن من الضروري أيضا أن تكون إندونيسيا عضوا فيه لأهميتها السكانية والثقافية. القارة الأفريقية يجب أن تكون حاضرة بمقعد لجنوب أفريقيا مثلا. ولابد من تمثيل العالم العربي أيضا في المجلس لأهميته الاقتصادية والثقافية والتأريخية، ولا ننسى أن سوء الفهم العالمي لقضايا الشرق الأوسط، قد ساهم في خلق العديد من الحروب والمشاكل الدولية، ومنها مشكلتا الهجرة والإرهاب، اللتان أثرتا على الحياة في مختلف دول العالم، لذلك فإن الحضور العربي في مجلس الأمن سيؤثر إيجابيا في القضايا الدولية.

ومن الضروري أيضا إلغاء حق النقض كليا، لأنه عطل ويعطل اتخاذ القرارات الدولية المهمة والعاجلة، بسبب سعي الدول الدائمة العضوية لخدمة مصالحها المباشرة، حتى وإن كانت على حسب العدالة والسلم العالمي ومصالح الدول الأخرى. يجب أن يكون اتخاذ القرارات في المجلس بالغالبية البسيطة، أو على الأقل بغالبية الثلثين، لضمان عدالتها وانسجامها مع المصالح الدولية والسلم العالمي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here