حياةُ موسى (عليه السَّلام) قُبيل البَعثةِ والتَّدابيرُ الرَّبانيَّةُ فيها

د. علي محمد الصلابي

نَقَلَت يد القدرةِ الإلهيّة خُطى موسى عليه السلام خُطوةً خُطوةً؛ منذ أن كان رضيعاً في المهْد حتى المرحلةِ التي ألقت به في اليمِّ ليلتقطه آلُ فرعون، وأَلْقَت عليه المحبة في قلب امرأته لِينشأ في كنف عدوه، ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفساً، وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها، وصاحَبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد، وجمعته بالشيخ الكبير ليُأَجِّره هذه السنوات العشر، ثم يعود بعدها فيتلقى التكليف، هذا خطٌّ طويلٌ مِنَ الرعاية والتوجيه ومن التلقي والتجريب قبل النداء وقبل التكليف، تجرِبَة الرعاية والحب والتدليل وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجرِبةُ الندم والتحرّج والاستغفار، وتجربة الخوف والمطاردة والفزع، وتجربة الغربة والوحدة والجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور، وما يتخلل هذه التجارِبَ الضخمةَ مِنْ شَتَّى التجارب الصغيرة والمشاعر المتباينة والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة .. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إنّ الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي إلى جانب هبة الله الَّلدُنِّيَّة ووحيه وتوجيه للقلب والضمير. [في ظلال القرآن، ٥/٢٦٩٠].
ورسالة موسى عليه السلام بالذات قد تكون أضخم تكليف تَلَقَّاه بشر -عدا رسالة محمد- ﷺ:
فهو مُرسلٌ إلى فرعون الطَّاغيةِ المتجبّر، وهو كان أعتى ملوك الأرض في زمانه وأقدمهم عرشاً، وأثبتهم مُلكاً وأعرقِهِم حضارةً، وأشدِّهم تعبُّداً للخلق واستعلاءً في الأرض.
وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذُّلِّ حتى استمرأوا مذاقه، فمَرَدوا عليه واستكانوا دهراً طويلاً والذُّلُّ يُفسِدُ الفطرة البشرية حتى تأسَنَ وتَتَعفن ويذهبَ ما فيها من الخير والجمال والتطلِّع ومن الاشمئزازِ من العفن والنَّتَن والرجس والدنس، فاستنقاذُ قومٍ كهؤلاء عمل شاقٌّ وعسير.
وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدةٌ قديمة، انحرفوا عنها وفسدت صورتها في قلوبهم، فلا هي قلوب خامةٌ تَتَقبَّل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة، ولا هي باقية على عقيدتها القديمة ومعالجة مثل هذه القلوب شاقّة وعسيرة، والالتواءات فيها والرواسب تزيد المهَمَّة مَشقةًّ وعُسراً.
وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من الأساس، فلأول مرة يُصبِحُ بنو إسرائيل شعباً مستَقِلاًّ له حياة خاصة تحكمها رسالة، وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير. [في ظلال القرآن، ٥/٢٦٩٠].
ولعلَّه لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أُمَّةٍ على أساس دعوة، وما يعترض هذا العمل من عقبات داخلية وخارجية، وما يعتريه من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.
جاءت تجربة السنوات العشر لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى -عليه السلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة، فإن لحياة القصور جواً خاصاً وتقاليد خاصة وظلال خاصة تلقيها على النفس وتطيعها بها مهما تكِن النفس من المعرفة والإدراك والشفافية. وإنَّ الرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ، والمهذب والخشن، وفيهم الطيب والخبيث والخيّر والشرير، وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع وفيهم وفيهم.
وإنَّ للفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة وطريقة حركتهم وحديثهم وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم. وهذه العادات تُثقل على نفوس المُنَعَّمِينَ ومشاعر الذين تربَّوا في القصور، ولا يكادون يُطيقون رؤيتها فضلاً عن معاناتها وعلاجها مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدَّة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور.
وكمان أن للرسالة تكاليفها من المشقة والتَّجَرِّد والشظف أحياناً.
وقلوب أهل القصور، مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الترف والدعة والمتعة، فإنها لا تصبر طويلاً على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.
لذلك شاءت القدرة التي تنقل خطى موسى عليه السلام أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة وأن تَزُجُّ به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون في مهنة رعي الغنم ليجد القوت والمأوى، بعد أيام الخوف والمطاردة والمشقة والجوع، وبالتالي ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم، وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم وأن تُلقِي به في خِضَمِّ الحياة كبيراً بعدما ألقت به في خِضَمِّ الأمواج صغيراً، لِيَتَمَرن على تكاليف دعوته قبل أن يتلقَّاها. [في ظلال القرآن، ٥/٢٦٩١].
فلما استكملت نفس موسى -عليه السلام- تجارِبها وأَكْمَلَت مِرانَتَها ودرَّبَتها بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه ومجال رسالته وعمله، سالكةً به الطريق التي سلكها أول مرة وحيداً طريداً خائفاً يتلفت فما هذه الجيئة والذهاب في ذات الطريق؟
إنها التدريب والمِرانَةُ والخبرة حتى بشعابِ الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في ريادة الطريق، فقومه كانوا في حاجةٍ إلى رائدٍ يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذُّل والقسوة والتسخير، حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير. وهكذا تُدرِكُ كيف صُنِعَ موسى على عين الله وكيف أعَدَّتْهُ القدرة لِتَلقِّي التكليف، فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى في طريقه إلى هذا التكليف. [في ظلال القرآن، ٥/٢٦٩١].

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “موسى عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واعتمد في كثير من معلوماته على كتاب: ” في ظلال القرآن” للأستاذ سيد قطب.

المراجع:
موسى عليه السلام عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/ 2003م.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here