تحليل بنيوي لفشل الديمقراطية في العراق -1

تحليل بنيوي لفشل الديمقراطية في العراق -1
1.فهم خلل العلاقة بين السلطة والدولة في العراق
يعرف الكثيرون ان العلمانية تطالب بفصل الدين عن الدولة ، ولكن ربما لايعي الكثيرون ان مفهوم الديمقراطية يتطلب فصل الحكومة عن الدولة، لأبعاد مؤسساتها التي تعود لجميع المواطنين، عن التسيس والتحزب السلطوي. ان المفهوم الشائع للديمقراطية انها الية لممارسة الحق الانتخابي للمواطنين لتشكيل برلمان لممثلي الشعب لتكوين حكوماته، كماثبتته الثورة الفرنسية. انه في الواقع مفهوم غير متكامل، نعم انها الية لتشكل هذه الحكومات من ممثلي الشعب في البرلمان، ولكنها مقيدة ان تعمل تحت مظلة الدولة ودون مساس بمؤسساتها الوطنية ولا تكون فوقها ولاتعمل لأضعافها. فالدولة بمؤسساتها ، في مفهومها المعاصر، تمثل وتدافع عن حقوق الشعب والمواطنة والمصالح الوطنية العليا للدولة والدفاع عنهما سواء خارجيا ام داخليا، اما الحكومة ، وأيضا في مفهومها المعاصر، فوظيفتها محددة بادارة الخدمات والنهوض بالمستوى المعاشي للسكان والتنموي للدولة وعملها يصب اساسا في تقوية الدولة وادارة امور المجتمع وفق برنامج خدمي وتنموي لفترة انتخابها فقط. فالحكومات مؤقتة وتتعاقب ،ولكن الدولة ومؤسساتها الوطنية ثابتة ودائمة وراسخة وهي تعمل فوق الحكومات بل وتراقبها وتحاسبها في استخدام المال العام او عند خرقها لحقوق المواطنة او الصالح العام كما يجري في الدول الديمقراطية الحقة.
ان التجارب المتراكمة للأمم في ادارة دولها وتكوين حكوماتها، اثبت ان فصل الحكومة والسلطة عن الدولة هو أحد أهم اسس الديمقراطية وتمارسها اليوم الأنظمة الديمقراطية . اما دمجهما وجعلهما كيانا واحدا فهو سمة مميزة للأنظمة الديكتاتورية. هذا مايمكن استخلاصه من اية مراجعة لتجارب الدول اخلال القرن الماضي والحالي. ففي جميع الدول الديمقراطية المستقرة ، تجد الحكومات تأتي وتتعاقب ولكن الدولة ومؤسساتها الوطنية ثابتة ومتوطدة ولاتعتمد على من يشكل الحكومة ، احزاب اليمين ام اليسار ، فهي حكومات خدمية تنموية تعمل وفق برنامج خدمي اقتصادي بغض النظر عن توجهاتها السياسية، فلايحق لها، بل ويمنع فرض فكرها السياسي على الدولة ومؤسساتها. اما دمج السلطة والدولة، او بصورة ادق، سيطرة السلطة على الدولة، والذي يتم عادة من الاحزاب الديكتاتورية المؤدلجة سياسيا، فهي تجعلهما كيانا واحدا ،فهي سمة عامة لكل الانظمة الديكتاتورية التي تجعل السلطة والدولة جسما واحدا مندمجا ويحكمها ديكتاتورا يرأس حزبا واحدا يدير السلطة والدولة معا، وهي كثيرة ابتداء من النظام النازي الى الستاليني الى الصدامي في العراق. ان تحليل الأنظمة الديكتاتورية يوضح هذه العلاقة ،فتقوية السلطة فيها يحتاج لتقوية الدولة واجهزتها، حفاظا على السلطة نفسها ، وتمارس السلطة القمع على مواطنيها بأسم المصالح العليا للدولة، وهذا ديدن كل الأنظمة الديكتاتورية التي قامت في العالم الحديث . انها تحت تبريرالحفاظ على المصلحة العليا للدولة تلغي الديمقراطية والتعددية وتمارس القمع وادلجة المجتمع ومؤسسات الدولة، فهي السلطة والدولة معا.ان العالم اصبح يميز بوضوح فصل سلطة الحكومة عن الدولة في الأنظمة الديمقراطية، ودمجهما في الأنظمة الديكتاتورية .
الواقع ان دمج السلطة والدولة ككيان واحد ليس جديدا في العراق ،بل قد تم منذ اكثر من ستين عاما،وتحديدا بعد انهاء دولته الوطنية بعد عام 1958 ، ومن وقتها اصبح من يستولي على السلطة، ويكون عادة بانقلاب عسكري كانقلابات البعثيين عامي 1963 و1968 ، فهويستولى على الدولة ايضا. ان الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم نفسه، المشهود له بالوطنية والنزاهة الاخلاص للعراق دولة وشعبا، ومعه القوى السياسية الوطنية التي ساندته ، لم يكنونا يدركا وقتها (عدا حزب الجادرجي الليبرالي التوجه ) الثمن الباهض الذي سيدفعه العراق لاحقا بانهاء ماقام به من دمج السلطة ( الحكومة) وجعلها الدولة في العراق . فالدولة قبل 1958 كان يمثلها الملك ،والسلطة او الحكومة التي يكلفها أو يقيلها هو الملك بأسم الدولة ومصالحها، اذا رفضها الشعب مثلا، فالفصل بين الحكومة والدولة هو واحد من اهم اركان الدول المستقرة كما الحال في النظم الديمقراطية في العالم، وعكسه ، فان جمعهما في كيان واحد ومصادرة الدولة من قبل السلطة ، أو دمجهما،هو من سمات النظم الديكتاتورية التي سادت العراق بعد ثورة تموز.
ان الجديد والغريب في العلاقة بين السلطة والدولة يأتي من العراق ايضا، وهو ربما اول أو من ضمن التجارب القليلة في العالم ، التي لاينطبق عليها كلتا الحالتين، أي علاقة الحكومة والدولة في الأنظمة الديمقراطية والديكتاتورية. هنا نشهد حالة غريبة لم يألفها العالم من قبل، وهي ان السلطة تعمل على تقويض الدولة في نظام يدعى ديمقراطيا ويمتلك دستورا برلمانيا كما في العراق، فهو ليس ديكتاتوريا وفق المفاهيم المتعارف عليها اليوم ولا يحكمه دكتاتور كما نعلم. ان مايجري في العراق اليوم ان الأستيلاء على السطة التي تصادر الدولة يتم اليوم عن طريق برلمان ومن خلال دستور يبدو ديمقراطيا، أي ان النظام ليس ديكتاتوريا كالسابق، ولكنه يقيم نظاما يجعل السلطة تسيطر على الدولة ، وهذه تعمل لأضعاف الدولة ، بل وعلى الغائها تدريجيا ، أي عكس الأنظمة الديكتاتورية ، التي كانت تقوي الدولة لتقوي سلطتها وسلطانها وقمعها باعتبارهما واحدا. أي ان السلطة تعمل على الوصول الى اللادولة.

ان المواطن والشعب العراقي معه فعلا، لايرى ولايلمس معالم دولة فيه، سواء في استقلالية مؤسساته الوطنية ، حيث يسودها التسيس والتقاسم الطائفيي، أو في الدفاع عن السيادة الوطنيه، او في حماية ثرواته وميزانيته، او حماية امن مواطنيه ، ولايرى حكومات تخدمه وتعامله بأحترام كمواطن. العكس هو مايجري تماما، انه يرى ضعف الدولة وقصورها وغيابها وهيمنة اللادولة ، فهو لايشبه النظم الديمقراطية ، ولا الديكتاتورية السابقة التي ثار عليها ، وهوليس كباقي الانظمة التي يعرفها في العالم سواء ديمقراطية او ديكتاتورية. فسيادة العراق تخرق بشكل شبه يومي اما بقصف طيران اوصواريخ ومسيرات من جيرانها شرقا وشمالا، وداخليا تهان يوميا من ميليشيات حزبية مسلحة تمول من نفس الدولة ، وتسيطر على مرافق الحدود والموانئ وميزانيات الوزارات واحزابها تسيطر على المؤسسات تحاصصيا وتعمل على انهاء مايسمى بالدولة في العراق. انه تبليغ شبه رسمي للمواطن وللشعب العراقي ان لاحماية له وفعلا قتلت ميليشيات الاحزاب والسلطة المئات من متظاهري تشرين وسط مدن العراق، وأغتالت الصحفيين والناشطين علنا ، ولليوم لم تعلن الدولة ولا السلطة عن محاكمة ولومسؤول واحد، ونهبت حكومته ميزانيته وقامت تقسيم شعبه الى طوائف وقنونت الميليشيات والمافيات لتمارس السلطات الفعلية على الأرض، انه عصر اللادولة كما يراه ويعيشه المواطن العراقي ،كل يوم وفي كل مكان، كما ويراه كل العالم. كل هذا يجري بأسم سلطة ونظام ديمقراطي برلماني صادرالدولة وصار يحطمها.ان ظاهرة العراق لم ير العالم لها مثيلا سوى ربما مايجري في لبنان ايضا .ففي كلاهما يتم تنفيذ نفس الدور لتصفية دولها واضعاف سيادتها ومؤسساتها الوطنية ومعها حقوق ومستقبل شعوبها ودولها الوطنية وتصفية وطنية المواطن نفسه بتحويل هويته الى مكونات ثانوية، وليس بالهوية والثقافة الوطنية لدولته.
لقد افرغت السلطة الدولة في العراق من أهم عناصرها واهم وظائفها المجمع عليها قانونيا و دوليا ككيان يعمل على تنمية روح المواطنة الجامعة لسكانها وحماية امن مواطنيها بل ، عكسه تماما ،عملت على زرع الأنشقاق الطائفي والعرقي في المجتمع وصولا الى تحاصص برلمانه ، ومؤسسات دولته ،ونهبت امواله، وحولت الشعب الى كتل متصارعة من المذاهب والمكونات، وبها نسفت وظيفة الدولة الوطنية المعاصرة ،التي تسود العالم اليوم من اقصاه الى اقصاه، في تطوير الهوية الوطنية لمواطنيها والمصالح الوطنية العليا للشعب وللدولة.

السؤال تحت البحث هو ما جذور هذه الظاهرة الشاذة ،التي لم ير العالم لها مثيلا ابدا الا ماندر، ان نظاما برلمانيا يأتي بسلطة تعمل على اضعاف وتفتيت بل وانهاء دولته الوطنية . وماهي اليات تصحيح هذا النظام “الديمقراطي” الشاذ في العراق؟ يتبع
د. لبيب سلطان
11/10/2022

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here