لا تكن في حرب مع نفسك !

لا تكن في حرب مع نفسك ! * د. رضا العطار

كثيرا ما دعوت الى الاخذ بأساليب الحضارة الغربية الحديثة. وقد يعتقد من يقرأ قولي في هذا الموضوع، اني مغرم بهذه الحضارة، لا اعرف ما هو اسمى منها. وهذا وهم اعذر القارئ عليه. ذلك ان ما يدفعني الى هذا القول – مع علمي انها حضارة عدوانية مسلحة في السلم والحرب – هو اننا اذا لم نماشيها، استطاعت ان تهزمنا وتكتسحنا بل تبيدنا كما فعلت مع غيرنا. واكبر اسلحتها هو الصناعة التي يجب ان نعجل بل نهرول في الاخذ بها.

ولكني مع ذلك لا اعمى عن الغيب الاصيل في هذه الحضارة وهي انها انفرادية اقتنائية تزاحمية شعارها الذي تعمل به هو: تنازع البقاء، والبقاء للأقوى، وانا وحدي والموت للمتخلفين. وهذا النظام الانفرادي الذي تحاول جميع الطبقات الواعية ان تنتقل منه الى نظام تعاوني اشتراكي هو الاصل في اهدافنا الوطنية. ان جميع ما نعاني من هموم وتوترات ومخاوف قد تحملنا على الاجرام او تردينا في مهاوي الامراض النفسية او تدفعنا الى الهروب والنسيان بالخمور والمخدرات.

هذا النظام الانفرادي هو الذي يشيع القلق بيننا، لأننا نخشى الافلاس والفقر والجوع. فنمتلئ هموما تزيغ عيوننا وعقولنا عن رؤية الحياة كما يجب ان ترى بقيمها الانسانية الحقيقية بدلا من القيم الاجتماعية الزائفة التي تمليها علينا هذه الحضارة. ولذلك عندما نقول بالاخذ بالحضارة الاوربية العصرية يجب الاّ ننسى هذه العيوب الاصيلة فيها. وانما ندعو اليها موقتا كي نحتمي من عدوانها، سلاح بسلاح، ثم نسعى لأيجاد المجتمع الاشتراكي ( على النمط الحالي في انكلترى مثلا ) الذي يريحنا من مآسيها وفظاعاتها.

كلنا مهموم. والهموم سموم. تأكل اعصابنا وتصيب نفوسنا واجسامنا وتقصر اعمارنا.

فاننا نحيا بحكم الاخلاق التي يمليها علينا المجتمع الانفرادي الحديث في طموح يرهقنا ولا نستطيع ان نتحمل مسؤلياته. ونطمع في الثراء او الجاه بأكثر مما نطيق، ونعاني الوانا من الحسد والغيرة، فنحقد ونغتاظ ونتألم. وغالبا ما نكبت. وليس شيء يحطم الجسم والنفس مثل الكبت. واحيانا نستسلم لخرافات سخيفة، تثير في نفوسنا عواطف زائفة قد تنتهي بموتنا او دمارنا او جنوننا.

اعتبر هذا المثل التالي نموذجا — عامل فقير يشتغل في مصنع، يرهق نفسه كثيرا ويقلق، لتحسين ظروفه المعاشية، وبسبب هذا الارهاق والقلق الزائد نتج عنده زيادة في ضغط الدم. فصارت الصغائر تبدو له كبائر، ثم ذات صباح مات بانفجار في الدماغ.

فما تفسير ذلك ؟

كلنا يطمح الى النجاح، وهذا الطموح فضيلة اذا مارسناه في اعتدال. ولكن النجاح ماء ملح يزيد عطشنا. ولذلك ارهق هذا الرجل نفسه كي يستزيد من الكسب. فكان يجهد ويعمل اكثر مما يتحمل فلقى حتفه.

ومجتمعنا الذي يدعونا الى الاقتناء يدعونا كذلك الى الطموح واحيانا يقتلنا او نحن نقتل انفسنا بالعطش الى الاقتناء وباحساس الطموح المسرف وفي كليهما قلق وهمّ يحدثان ارهاقا يؤدي الى توترات لا نطيقها. و لهذا السبب فنحن في حرب باردة مع انفسنا.

لقد قام الباحث الروسي الشهير بافلوف بتجارب على الكلاب، نستطيع ان نستخرج منها حكمة لحياتنا. ذلك انه درّب طائفة من الكلاب ان تنتظر تقديم الطعام بعد رنين الجرس.

50 رنة في الدقيقة تعني طعاما، 100 رنة تعني الحرمان من الطعام. وكرر العالم هذا الدرس للكلاب حتى فهمته واستقرت عليه. ثم قام بتجربة اخرى تتصل بنا نحن البشر. وذلك انه جعل الجرس يدق 75 رنه ثم يقف. فلا هو يؤذن بالطعام ولا هو يمنع الطعام. فماذا حدث ؟ حدث الشك والقلق عند الكلاب. فصارت تعوي وتتضور كأنها تبكي وتتألم.

نحن في الحضارة الحديثة كالكلاب نعيش في قلق الشك لا نعرف هل سننجح ام نخيب ؟ هل نثرى ام نفلس ؟ هل نمرض ام نبقى اصحاء ؟ هل نحيا ام نموت ؟ وهل ان اولادنا سيحالفهم النجاح في الحياة ام يصيبهم الفشل ؟ — فنحن نعيش في الحضارة العصرية على درجة 75 رنة في الدقيقة لا طمأنينة ولا يقين. ولذلك نحس القلق الذي يزيد من مخاوفنا وامراضنا النفسية الخطيرة. يجعلنا دوما مكروبين ضائقين متوترين.

لقد وجد بافلوف ان الكلاب القلقة التي الحّ عليها بدرجة 75 رنة، تقصر اعمارها وتمرض بأورام مختلفة ويسقط شعرها وتصاب بالروماتزم و تبكر في الشيخوخة.

اي ان القلق العصبي عند الكلاب، يقابله القلق النفسي عندنا، يعرضنا الى الامراض ويقصر اعمارنا.

وتوترات النفس تؤدي الى توترات الجسم والعلاج الاول لها هو النوم الذي وصفه الفيلسوف الالماني نيتشه بانه سيد الفضائل، ولكن يجب ان ننام كي نستيقظ لان النوم ليس غاية انما هو وسيلة لان نصحو ونجد وننتبه ونفهم. واذا كان النوم حسنا وافيا صارت يقظتنا حسنة وافية — لا تكن في حرب باردة مع نفسك. فان نفسك هي انسانة جسمك ولا تثر في نفسك عواطف الطموح المسرف اوالجشع المفرط اللذان يسببان عواطف القلق والخوف ثم التوترات ثم الانهيار.

قاوم روح الحضارة الانفرادية فلا تتركها تكتسحك وفكر في الحب والقناعة وخذ بفضائل عليا واعظمها النجاح الصحيح مع النمو في الثقافة والتوسع في المعارف والحب للطبيعة والناس اجمعين. والاعتماد على العقل دون الانسياق وراء العواطف الضارة. واخيرا لا تنس ان غذاء نفسك هو الفنون. فتعلم فنا ومارسه. وكن ذكيا ! واعلى درجات الذكاء هو الأنسانية.

*) مقتبس من كتاب دراسات سيكولوجية للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here