حيرة الأنسان امام المجهول !

حيرة الأنسان امام المجهول ! * د. رضا العطار

تعالج الفلسفات المعاصرة (المواقف الحدية) في صور ادبية، تلك المواقف التي تشكل جزءا من ماهية الأنسان. وهي في الوقت ذاته تمثل ( حدا لقدرته وحريته ) بحيث لا يكون في استطاعته ان يتغلب عليها من ناحية، كما انه لا يستطيع تفسيرها من ناحية اخرى، ولا يبقى امامه سوى ان يستسلم لها ! ومن اوضح الامثلة على هذه المواقف الحدية عدم قدرة الانسان على الافلات من الموت. اي انه كل ما يعمل، لا يحميه من النهاية المحتومة.

واذا كان في استطاعة العلم ان يعمل على اطالة عمر الانسان، فان هذه الاطالة لا يمكن ان تمتد بحيث تساعده في النهاية على الافلات من الفناء المقدر له. ! لك ان تقول ان متوسط عمر الانسان كان كذا في الماضي واصبح الان كيت بفضل تقدم الطب. واكتشاف الامراض. وتطور ادوات التحليل ودقتها وابتكار الجديد من العقاقير الخ. فالموت يمثل الجدار الصلب الذي تصطدم به قدرات الانسان يعجز من الوقوف امامه ولا يستطيع ان يفعل شيئا سوى الاستسلام.

واذا كانت نهاية الانسان لغزا محيرا لا بد ان يستسلم له كل من يجاهد في حله اوتفسيره.

فان بدايته هي ايضا لغز، لأنها تعبر عن موقف آخر من المواقف الحدية، ونحن نقصد بالبداية (اللحظة التاريخية) المعينة التي يجد المرء نفسه فيها وقد قُذف به فجأة الى الحياة بغير رأي او مشورة ! فلم يسأله احد متى تحب ان توجد ؟ وفي اي عصر تود ان تقضي حياتك ؟ وفي اي مجتمع تريد ان تعيش ؟ واي لون بشرة تروم ؟ لا احد يسأله ولا احد يطلب رأيه وانما يجد نفسه وقد القي به في قلب الوجود، ثم يُترك حائرا امام لغز محير، ولسان حاله يردد مع الخيام :

لبست ثوب العيش لم استشر * * * وحرت فيه بين شتى الفكر !

ومن هذه المواقف الحدية ايضا : العذاب، والألم، والمعاناة، والشعور بالأسى، — الخ

فقد يعجب الفقير اشد العجب عندما يجد الغني يشكو ويتذمر ويكاد صدره يتفطر من البغض والحسد او من الشعور بالتعاسة والشقاء، متهالكا في تكديس ثروة اكثر، لأنه يعتقد ان (الفقر) هو وحده مصدر العذاب والألم. اما الاغنياء فلا يحق لهم الشكوى لانهم لا يعانون ما هو يعانيه – انه لا يعلم ان الألم والمعاناة هي من الواقف الحدية التي هي جزء من جوهر الانسان.

جاء في الاساطير القديمة ان ملكا مرض بمرض عضال استعصي على الاطباء معالجته، وان كانوا قد اجمعوا في نهاية الامر انه لا شفاء للملك من هذا المرض الغريب الاّ اذا لبس قميص رجل سعيد. وانتشر اعوان الملك وحاشيته يجوبون ارجاء المملكة بحثا عن ذلك السعيد الذي سيكون في قميصه شفاء للملك. لكنهم كانوا كلما مروا في طريقهم بواحد من الرعية سألوه : أسعيد انت ؟ فيجيب الرجل في امتعاض : أنا ؟ لن تجد في الدنيا من هو اشد مني تعاسة! . واحتار الاعوان، لكن الفرج جاء عندما وجدوا راعيا فوق الجبل يرعى غنمه وهو يغني جذلان فرحا، فهرولوا اليه ليطرحوا سؤالهم التقليدي : أسعيد انت ؟ فأجاب الراعي نعم سعيد سعادة لا حد لها! فتنفسوا الصعداء : اذن الينا بقميصك يرتديه الملك فيشفى ! فأبتسم الرجل وهو يقول : قميصي ؟ لم يحدث ان ارتديت قميصا في حياتي !! وتركوه … ومن هنا ظهر المثل القائل:

( السعادة عند من لا قميص له ).

وقل مثل ذلك في الخطأ، فلا بد للفرد ان يخطئ : ( لا احد معصوم من الخطأ )

او ان ( الانسان خطّاء بطبعه ) واذا كانت مظاهر المدنية الحديثة هي الميدان الذي تتجلى فيه عبقرية الانسان وذكاءه وسلامة تفكيره على نحو ما يعبر عنها هبوطه على القمر وبناءه للصواريخ وسفن الفضاء فضلا عن الطائرات والقطارات وغيرها من الآلات والادوات الخ . فان مصرع رواد الفضاء وحوادث الطائرات وغرق السفن في المحيطات واندلاع الحروب دليل قاطع على ان الانسان يقع في الخطأ.

فانت لا تملك امام هذه الكوارث البشرية سوى ان تقول : هنا اخطأ انسان ما. فما دام الانسان يعمل فلا بد ان يخطئ بل ان امتناعه الكامل عن العمل يُعدّ خطأ. وربما كان هذا الخطأ سببا في حدوث عواقب وخيمة، تكون نتائجه اشد خطورة من العمل نفسه.

* مقتبس من كتاب افكار ومواقف لمؤلفه امام عبد الفتاح امام

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here